في أوساط اللبنانيين المتواجدين في دول الخليج العربي ضجة كبيرة، ليس بسبب التدهور السريع لأحوال البلاد والعباد في الوطن الأم وحسب، بل نتيجة هذا التمادي بالعجز، وفقدان الحد الأدنى من حس المسؤولية الوطنية لدى أطراف المنظومة السياسية، والتي بلغت ذروتها في محاولات الالتفاف على التحقيقات القضائية في انفجار مرفأ بيروت.
استمرار حالات التخبّط والتعثر في بيروت، يُضاعف خطوات تراجع الثقة بالطبقة الحاكمة، ويزيد اللبنانيين المتمولين هنا ابتعاداً عن الدولة، وعن احتمالات العودة إلى الاستثمار في البلد، والاكتفاء بالمساعدات الفردية للأهل والأقارب في خضم سلسلة الأزمات المعيشية التي تطوّق أعناق اللبنانيين الصامدين في الوطن.
وكلما زاد الفراق مع أهل الحكم والأطراف السياسية والحزبية التي فشلت في إدارة الأزمات المتناسلة في البلد، كلما ازداد الاقتراب والإعجاب بمواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي تجاوز أهل السياسة، وكشف إفلاسهم في إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المزمنة، وبدأ بطرح الحلول الجذرية للتأزم الحالي في لبنان، وذلك عبر المناداة بالحياد الناشط، والدعوة لمؤتمر دولي لإنقاذ لبنان من الانهيارات المتلاحقة.
وفي حلقات النقاش بين اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، تلمس واقعية في التفكير وفي البحث عن المخارج المناسبة لأزمات الوطن المستعصية. حيث لا أحد متحمساً لفكرة المؤتمر الدولي من أجل إحراج أحد من الشركاء في الوطن، بقدر ما هي خطوة تعبّر عن استفحال العجز لدى الأطراف اللبنانية الرسمية والحزبية، في الموالاة والمعارضة، عن إيجاد المعالجات القادرة على إنقاذ ما تبقى من مقومات الدولة والنظام السياسي. الأمر الذي جعل الكثير من اللبنانيين، المقيمين والمغتربين، يلتفون حول دعوات البطريرك للحياد والمؤتمر الدولي، لعلها تفتح أبواب الإنقاذ قبل فوات الأوان.
وتسمع في جلسات النقاش كلاماً صريحاً ومنفتحاً على أي اقتراح من أي طرف أتى، بما ذلك الثنائي الشيعي، إذا كان يحمل بذور حل متوازن ودائم، ومن شأنه انتشال البلاد والعباد من نيران جهنم التي تكاد تقضي على الأخضر واليابس، حيث لا يعود عند بروز مشروع حل داخلي، ثمة مبرر للتفكير بالذهاب إلى الخارج الدولي بحثاً عن المخارج وسبل الإنقاذ.
ويُعمم اللبنانيون كلام البطريرك الراعي على بعضهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويتبادلون التعليقات والتقييمات على ما ورد فيها من مواقف، ليخلصوا بعد ذلك إلى التداول فيها خلال لقاءاتهم الاجتماعية.
في حين لا تلقى تصريحات رئيس التيار العوني النائب جبران باسيل ومؤتمراته الصحفية آذاناً صاغية، حيث تعتبر الأكثرية الساحقة من المسيحيين، أن شعار «الدفاع عن حقوق المسيحيين»، الذي يكرره باسيل دوماً، هو كلمة حق يُراد بها باطل، بعدما تحوّل هذا الشعار إلى ستار كثيف للتغطية على أمرين بارزين: الأول، الفشل المستمر في إدارة دفة الحكم خلال العهد الحالي. والثاني، التستر على فضائح الفساد الذي استشرى في السنوات الأخيرة، وخاصة في قطاعي الكهرباء والسدود المائية والنفايات. إلى جانب السعي الحثيث للإمساك بالسلطة بيد حزبية ضيقة، بهدف الوصول إلى قصر بعبدا، ووراثة رئاسة الجمهورية عن عمه، بعد انتهاء ولايته في تشرين الأول من العام المقبل.
ويذهب رجل أعمال مسيحي مخضرم أبعد من ذلك، حيث يعتبر أن رصيد رئيس الجمهورية وتياره الذي أسسه خلال فترة وجوده في باريس، يتآكل بوتيرة أسرع يوماً بعد يوم، وخاصة بعد انفجار مرفأ بيروت، و«تطنيش» فريق العهد، وخاصة التيار ورئيسه، على فداحة الأضرار التي لحقت بالأحياء المسيحية، والمؤسسات الاستشفائية فيها، وعدم تقديم أية مساعدات فعلية لعشرات الآلاف من العائلات المتضررة، رغم انتهاء الشهر السادس على وقوع الكارثة.
ويتساءل الرجل الذي ساهم مع شركات مقاولات في لبنان في ترميم عدد من الأبنية المنكوبة: هل حقوق المسيحيين تتحقق عندما نزرع الأزلام في الإدارات العامة، ونعقد الصفقات، أم عبر الوقوف مع العائلات المحتاجة إلى مد يد العون في هذا الزمن الذي تكالبت فيه كل عوامل الخراب: من الانفجار المريع، إلى انهيار الليرة المأساوي، إلى حجز أموال المودعين في المصارف، وأخيراً تفلّت وحش الغلاء الفاحش، والقضاء على آخر معالم الطبقة الوسطى في البلد؟
النقاشات تطول وتتشعب، ولكن ثمة حقيقة لا بد من التوقف عندها:
قلوب اللبنانيين المغتربين على الوطن الجريح… ولكن قلوب السياسيين على جيوبهم ومصالحهم، وعقولهم صمّاء وقاسية كالصخر في العناد!