يقف الرئيس ميشال عون عاجزاً عن فعل اي شيء: لا هو قادر على التأليف من دون التفاهم مع الرئيس المكلّف، ولا هو قادر على دفعه إلى الاعتذار، ولا هو قادر على وقف الانهيار، وأصبحت تصحّ فيه مقولة حدود سلطته القصر الجمهوري والجوار.
لا يستطيع العهد ان يصوِّر أزمته بكونها طائفية، وانّه يتعرّض لحصار إسلامي لإضعاف الرئيس القوي، لأنّه الحليف الأول لـ«حزب الله»، والرئيس نبيه بري تولّى أكثر من مبادرة لإخراج التأليف من عنق الزجاجة، ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط دعا إلى تسوية من القصر الجمهوري، وبدا فيها أقرب إلى عون منه إلى حليفه الرئيس سعد الحريري، والأخير لا يخوض معركة صلاحيات وكسر الرئيس القوي، إنما يسعى إلى حكومة قادرة على نيل ثقة العالم، لتتمكن من تحقيق الإصلاحات وجلب المساعدات لإخراج لبنان من أزمته.
وفي مراجعة لمسار التأليف منذ تكليف الحريري، ومن دون الدخول في تفاصيل قصة «إبريق الزيت المملة» حول العِقَد الشكلية المُعلنة التي تُستخدم كشماعة وذرائع، يتبيّن بشكل جلي، انّ الرئيس المكلّف تعرّض منذ ما قبل تكليفه إلى ما بعد كل لقاء ناجح عقده مع عون، وأعطى على أثره انطباعات إيجابية، تعرّض لحملة كل الهدف منها إعادة الأمور إلى النقطة الصفر، والسبب الفعلي لذلك، انّ الحريري أراد تأليف الحكومة مع رئيس الجمهورية وليس مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، ولو وافق على خوض نقاش التأليف مع باسيل لكانت تألّفت الحكومة.
ومن حقّ الرئيس المكلّف ان يرفض التفاوض مع رئيس الظلّ، ويصرّ على التأليف وفق الآلية الدستورية، ولكن عون يصرّ على توقيع التشكيلة التي يتفق عليها الحريري وباسيل، ولن تؤلّف الحكومة قبل ذلك. وأكثر من موقف يدلّ الى انّ العقدة الأساس تكمن في هذا الجانب، من الموفد الفرنسي باتريك دوريل، الذي حاول تجسير التواصل بينهما، إلى دعوة جنبلاط للحريري من أجل التواصل مع باسيل، مستغرباً رفضه مواصلة ما كان رسّخه في حكومتي العهد الأولى والثانية، وصولاً إلى الصورة الكاريكاتورية التي أعطاها رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وتعكس واقع الحال «قوم بوس تيريز»، بمعنى انّ عون يحيل كل من يتواصل معه إلى باسيل.
وما قد أصبح جلياً حتى الساعة ثلاث حقائق أساسية:
الحقيقة الأولى، انّ الحريري لن يتراجع عن موقفه بأنّ التأليف يتمّ مع عون لا باسيل، ولو كان في وارد التراجع لكان تراجع، وبالتالي لعب العهد على حافة الهاوية غير مجدٍ.
الحقيقة الثانية، انّ الانهيار يتواصل وبوتيرة متسارعة، وانّ الدخول في المحظور اقترب مع رفع الدعم والاستحقاقات المالية، وبالتالي سياسة شراء الوقت تلعب ضدّ ساعة العهد، إلّا إذا كان يظنّ انّ الفوضى تؤدي إلى تعليق الدستور وتبقيه في القصر الجمهوري كأمر واقع.
الحقيقة الثالثة، انّ الخاسر الأكبر كفريق سياسي طبعاً، لأنّ الخسارة الأساسية هي على البلد والشعب، هو رئيس الجمهورية وتياره، لأنّ الخارج يحمِّله مسؤولية الفراغ، وفِي الداخل ليس هناك من يدافع عن وجهة نظره، ومن كان من أقرب المقرّبين إليه والمنظّرين لانتخابه ودوره، اي دولة الرئيس إيلي الفرزلي، أصبح ضدّه، شأنه شأن معظم القوى باستثناء «حزب الله» الذي يدعمه من دون ان يدافع عنه.
وفي سياق الحقيقة الثالثة نفسها، من يصل إلى وضع المحاصر خارجياً والمرفوض داخلياً والعالق في حالة انهيارية لن تقف عند حدود، يفترض به ان يقدِّم التنازلات، في محاولة لتجاوز هذه اللحظة التي لم تعد تصبّ في مصلحته، وعندما يتمكّن مجدداً بإمكانه الانتقام لاحقاً، وخلاف ذلك يعني انّه وصل إلى قناعة بأنّ الإنقاذ مستحيل، وانّ الارتطام حتمي، وانّ من مصلحته انهيار الدولة فيبقى في موقعه ويشدّ عصبّ جماعته و»تضيع» مسؤولية من أوصل البلد إلى الهاوية، لأنّ البلد يكون قد دخل في فصل جديد يصعب تقدير الاتجاهات التي سيسلكها.
وفي إطلالته الأخيرة، بدا باسيل متيقناً للانسداد في الفضاء السياسي الذي وصل إليه، وقال حرفياً: «إذا هو ما بدّو يعتذر، ورئيس الجمهورية طبعاً ما بيستقيل، واذا مجلس النواب ما بيريد سحب التكليف منه، شو بيبقى لنا نعمل؟ نتفرّج على البلد ينهار؟ هناك حالة وحيدة باقية للتفكير فيها من أجل سحب التكليف منه وهي استقالة مجلس النواب، فبيصير تكليفه بلا وجود! هيدا بيعني انتخابات مبكرة! هل الإنتخابات المبكرة بتغيّر بالمعادلة؟ طبعاً لا! هل الوقت هلّق للانتخابات المبكرة؟ طبعاً لا! الانتخابات رح تسبّب توتّرات كبيرة على الأرض بهيك وضع، مع خوف من فلتان أمني بظل تزايد حالات الإنهيار الاجتماعي. لازم ينعمل شي ما فينا نبقى هيك، أمّا انّو نرضخ لمشروعهم بإنّو يبقى العهد والبلد سنة ونصف إضافية من دون حكومة، فهذا انتحار ونهاية للبلد وما منقبل فيه».
وفي الارتكاز على كلامه يظهر بأنّه يقف حائراً ولا أجوبة لديه حول كيفية الخروج من هذا المأزق: عون لن يستقيل، الحريري لن يعتذر، مجلس النواب لا يستطيع سحب التكليف، الانتخابات المبكرة يرفضها، البلد يواصل انهياره، الفراغ مستمر حتى نهاية العهد، والتسوية يعتبرها رضوخاً. وهذا التوصيف الذي قدّمه باسيل يعني انّ العهد أصبح فاقداً للمبادرة الوطنية والسياسية، ومكبّلاً في بعبدا، في موت سياسي بطيء للبلد، وينتظر الانهيار الشامل علُّه يفتح أمامه فرصة لم يفتحها له الانهيار في نهاية ثمانينات القرن الماضي.
وبدا بكلامه انّه ليس فقط ضدّ الانتخابات المبكرة التي لن تبدِّل، برأيه، بالنتائج، بل ضدّ الانتخابات بوقتها، لأنّه اعتبر بأنّها تسبِّب في الظروف المالية والاجتماعية توترات على الأرض وتؤدي إلى فلتان أمني. وبما انّ الوضع المالي لن يصطلح في ربيع العام المقبل، فيعني انّ ما ينطبق على الانتخابات المبكرة ينسحب على الانتخابات في توقيتها. وهذا أوّل موقف صريح للتمديد النيابي، ويذكِّر بالحجج التي كانت تُعطى في زمن ما قبل العام 2005 عن الخروج السوري من لبنان، مستعيناً بقاموس الزمن السوري.
ومن الواضح، انّ رفضه للانتخابات متأتٍ من خشيته من نتائجها، وإلّا كان لجأ إليها في محاولة للتخلُّص من تكليف الحريري كما قال، حيث يُظهر كلامه عن هذا الأمر انّ خيار الانتخابات وضع على طاولة النقاش قبل ان يُعاد استبعاده، كون استفتاء الناس التي تحمّله مسؤولية الانهيار ليس في مصلحته، وغير صحيح قوله بأنّه «حتى لو ربح حدا كم مقعد من هون او خسر كم مقعد من هونيك، ما بتغيّر معادلة مجلس النواب ومعادلة الحكم بهيك نظام طائفي»، لأنّ الناس تريد التغيير، واي انتخابات تحصل اليوم ستشكّل نتائجها مفاجأة كبرى داخل كل البيئات، فيما التوصيف الذي أعطاه للانسداد السياسي لا يمكن الخروج منه سوى عن طريق الانتخابات، وليس عن طريق التفرُّج على البلد ينهار.
وأما حجة التوترات على الأرض، فهي حجة قديمة مُعتمدة لدى الأنظمة البوليسية، خصوصاً انّ القوى الأمنية ما زالت الوحيدة الصامدة في وجه الانهيارات التي تسبب بها العهد، والفلتان غير موجود، والبلد لا يشهد انقساماً طائفياً على غرار زمن الحرب، ولا انقساماً سياسياً على غرار حقبة 8 و 14 آذار، فيما الانتخابات تفضي إلى ثلاثة عوامل أساسية: تنفيس احتقان الناس، ضخ السوق الانتخابي بالعملة الصعبة، والخروج من المأزق الوطني والسياسي.
وقد بدا مربكاً في كل الملفات التي أثارها وتحديداً في ملف الترسيم، حيث ظهر بأنّه مستاء بسبب تصدُّر الجيش اللبناني لهذا الملف، ووقوف الجميع خلف المؤسسة العسكرية، فيما الانطباع الذي تركه عدم التوقيع على المرسوم بأنّه يبحث عن حل سياسي لا تقني كما هو مطلوب.
وفي مطلق الأحوال، وتأسيسًا على التشخيص الذي أعطاه باسيل ورفضه لكل المخارج، فإنّ الخيار الوحيد المتبقي، الذي يضع العهد القوي اللبنانيين أمامه هو الانهيار. وهذا تحديداً ما أكّده باسيل في تشخيصه للوضع، ورفضه لكل المخارج الأخرى بقوله «شو بيبقى لنا نعمل؟ نتفرّج على البلد ينهار؟»، فيما اي فريق سياسي يكون في موقع السلطة والقرار، عليه ان يعمل ويبادر، وألّا يكون في موقع المتفرِّج، خصوصاً انّ المخارج متاحة في حال أراد اعتمادها.