من كان يهدد بأن يهز الأرض بقدميه اهتزت الأرض تحت قدميه ودخل في حالة من فقدان الوزن السياسي والشعبي. هذه حال التيار الوطني الحر منذ تاريخ انطلاق ثورة 17 تشرين وربما قبلها. يحاول التيار أن يصحح الصورة التي ارتسمت عنه وربطته بالإنهيار وبكونه أحد أسبابه ولكنه لم ينجح. كأنه يعيش في ورطة لا يجد سبيلاً للخروج منها وهو لذلك يبدو كأنه ينتقل من مأزق إلى آخر وتبقى الصورة كما هي.
لم تكن المرة الأولى التي يُنزِل فيها التيار شارعه إلى الأرض عندما نظم تظاهرة إلى أمام مصرف لبنان في منطقة الحمراء يوم الخميس الماضي في 20 شباط. في 13 تشرين الأول كان رئيس التيار الوزير جبران باسيل يعد نفسه وأنصاره بانتصار قريب ويهدد من بلدة الحدث بقلب الطاولة على الجميع وبأنه سيكون مثل الماء الجارف الذي سيجرف كل من يقف في طريقه ولكنه لم يكن ليتوقع أن تنقلب الطاولة عليه. عندما كان يضع حجر الأساس لبناء مقر التيار في الضبية في 7 آب أعلن أن “لا شيء سيوقفنا عن تحقيق أحلامنا” ولكنه لم يكن يدري أن هذه الأحلام ستتقلص إلى حدود إعادة ترتيب صورته وصورة تياره. هذه الصورة المتناقضة ظهرت في 9 شباط في عيد مار مارون عندما كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون داخل كنيسة مار مارون في الجميزة يستمع إلى المطران بولس عبد الساتر يعلن في عظته “ما حدا بيقدر يحبس المي، والناس متل المي إلا ما تلاقي منفذ تنفجر منو”.
صورة التيار وصورة العهد
ربما أخطأ الوزير جبران باسيل في الربط بين صورته وصورة تياره. هذا الخطأ قد تكون أضراره محصورة به وبالتيار. ولكن الخطأ الأكبر كان في أن يدمج بين صورته وصورة التيار وصورة العهد ورئيس الجمهورية. إذا خسر التيار أو باسيل فتلك ليست مشكلة كبيرة وتبقى في إطار العمل السياسي الحزبي أما إذا تم تحميل هذه الخسارة للعهد فهي الخسارة الكبرى.
ربما لا يتحمل باسيل نفسه لوحده مسؤولية هذا الربط. رئيس الجمهورية يتحمل أيضاً مسؤولية. فهو الذي أعلن قبل غيره أن باسيل هو الحصان المتقدم في طريق الوصول إلى قصر بعبدا وأنه يحق له أن يتدخل في تشكيل الحكومات وفي تسمية رئيس الحكومة والتفاوض معه وباسمه لأنه رئيس أكبر كتلة مسيحية في مجلس النواب. كونه كذلك جعله هدفاً سهلاً للتصويب عليه. عندما تحدث رئيس حزب القوات سمير جعجع عن أن الرئيس عون كان يطلب منه أن يراجع باسيل في كل مسألة يبحثها معه كان يصوّر الواقع كما هو وإن رسم تلك الصورة عن طريق المزح بمقولة “قوم بوس تيريز” التي أصبحت تعتمد للوصف الدقيق للعلاقة التي تربط بين عون وباسيل. رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري عاد إلى الوصف نفسه في خطابه في 14 شباط عندما تحدث عن اضطراره إلى التعاطي مع رئيسين للجمهورية الرئيس الدستوري العماد عون والرئيس الظل باسيل. ورئيس مجلس النواب نبيه بري لم يكن خارج هذا السياق عندما كان أعلن قبل انتخاب عون أنه لن ينتخب رئيسين.
لم يكن باسيل ينتظر أن تندلع الثورة في 17 تشرين بعد أربعة أيام على تهديداته في 13 تشرين. أكثر من ذلك لم يكن ليتوقع أن يكون بمشاريعه وبسياساته الهدف الأول لهذه الثورة وأن تنقلب الصورة رأساً على عقب وأن يتحول من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع.
محاولات فاشلة
لم يكن قد مضى على لقاء السبع ساعات بينه وبين الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله إلا قليل أيام عندما اعتقد أن هجومه سيكون ساحقاً بعد الخلل الذي اعترض طريقه في حادث قبرشمون في آخر حزيران الماضي ولكن آماله خابت ولن يكون في استطاعته البحث عن لقاء جديد مع نصرالله لكي يعيد ترتيب وضعه السياسي.
عبثاً حاول باسيل مع تياره وقف تقدم ثورة 17 تشرين. حاولوا أن يتسعينوا بـ”حزب الله” لفتح الطرقات وأن يضغطوا على قيادة الجيش ومديرية المخابرات وأن يشيطنوا الثورة ويتهموها بأنها باتت تحت سيطرة قوى سياسية كالقوات والحزب التقدمي الإشتراكي وأن يصفوا الثوار بالزعران ولكنهم فشلوا في وقف زخم الثورة وفي منع استقالة الرئيس سعد الحريري. وبعد ذلك فشل باسيل مع “حزب الله” في حمل الحريري على العودة بشروطهم. وإذا كان الحريري خرج من السراي ودخلها الدكتور حسان دياب فإن باسيل خرج أيضاً من الحكومة وليس من السهل عليه أن يدعي أنه كان الشريك في تشكيلها أو أنه سيكون باستطاعته التحكم بطريقة عملها وحتى بادعاء أنه يملك القدرة على تعطيلها أو إقالتها باعتبار أن لديه الثلث المعطل فيها. قبل تشكيل الحكومة وبعدها لم يتبدل موقع باسيل والتيار الوطني الحر.
حاول باسيل أن يتلقط أنفاسه سريعاً. بعد احتجابه منذ 17 تشرين نظم في 3 تشرين الثاني تظاهرة تأييد للرئيس عون في بعبدا بعد أربعة أيام فقط على إعلان الرئيس سعد الحريري استقالته. ولكن هذه التظاهرة لم تبدل الصورة. أكثر من ذلك أدت إلى عكس ما كان يرجوه منها وكشفت عن الإنقسام داخل عائلة الرئيس عندما قاطعها النائب شامل روكز وزوجته كلودين ابنة الرئيس كما فعلت ابنته الثانية ميراي وقد تم اتهام باسيل لاحقاً بأنه يستغل صورة العهد.
حاول التيار بقيادة باسيل أن يهدد بنزول شارع مقابل شارع ولكنه فشل في تحدي الشارع الحقيقي وفقد قدرته في أن يكون لديه شارع يوازيه. وهكذا انتقل إلى تنظيم مسيرات حزبية إلى مقرات رسمية خصوصاً أمام قصور العدل في بعبدا والعدلية والجديدة وجونية وجبيل مهدداً بفتح ملفات الإثراء غير المشروع ومظهّراً لنشاطه ونشاط نوابه في إقرار قوانين محاكمة الرؤساء والوزراء والنواب ولكن من دون نتيجة تذكر.
أمام مصرف لبنان
في تظاهرته أمام مصرف لبنان لم يكن موفقاً أيضاً. إلى هناك لاحقته مسألتان لم يقدّم عنهما إجابات: مسألة التجديد للحاكم رياض سلامة قبل عامين ومسألة استفادة مصرف كان يتولى مسؤولية فيه وزير عينه في الحكومة من الهندسات المالية التي نظمها مصرف لبنان. وأكثر من ذلك ظهر وكأنه يعيش في غيبوبة عن الواقع مع شارعه المتبقي له والذي لا يزال يمون عليه بالنزول إلى الأرض من دون أن يهزها، وكأنهما في حالة تيه دائم ممتد في التاريخ منذ أكثر من ثلاثين عاماً. الشعارات نفسها. الصور نفسها. الطريقة نفسها. هو على الأرض وكأن رجليه ليستا على الأرض وكأن لا صلة له بالواقع وبما يحصل. بينما يتظاهر مناصرو الثورة منذ 17 تشرين من دون أعلام أو شعارات حزبية كان التيار في كل تحركاته أسير أعلامه وصوره وصورته المتكررة. لا يقرّ بأنه أصيب بأضرار كبيرة ولا يسعى إلى إصلاح ما أصابه. على العكس يعتبر أن الآخرين على خطأ وأنه وحده الصحّ. أمام المصرف المركزي في الحمرا كان مشهد تجمّعه فولكلورياً كأنه في مسرحية يخرجها ويمثلها ويحضرها ويصفق لنفسه بعد نهايتها. ثمة صورة لا تنفصل عن المشهد العام الذي يعيشه التيار. صورة أحد نوابه يحاول أن يصمد في مطعم قبل أن يتوارى من مطعم آخر. هكذا يبدو التيار أنه يريد أن يثبت حضوره في بحر غيابه الكبير. ذلك أن العودة إلى الحياة لا تستقيم بتظاهرة من هنا أو بتحرك من هناك. كأن الحزب الذي قام على صورة العماد عون بات يحتاج إلى رافعات أكبر وأقوى من تلك التي تعمل في بناء مقره الجديد فوق صخور نهر الكلب.