من الضروري، بين حين وآخر تذكير جبران باسيل بما هو عليه الوضع في لبنان والمنطقة بعيداً عن الشعارات الفارغة التي يخرج بها والتي يعتقد أن اللبنانيين سيصدقونها. من بين هذه الشعارات أنّ “التيّار الوطني الحر”، حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي على رأسه جبران باسيل نفسه، “تيّار استقلالي” وأن لا وجود لاحتلال إيراني للبنان. ما دام لبنان ليس تحت الاحتلال الإيراني، لماذا اعترض ميشال عون منذ اللحظة الأولى على تحقيق دولي في كارثة تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب – أغسطس من العام 2020؟ اليس ذلك من أجل التعمية على حقيقة من أتى بنيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت ومن خزّنها في أحد العنابر ومن استخدمها لاحقاً؟
يُفترض في جبران باسيل الذي يتحدّث عن “الوصاية السورية” متجاهلاً وجود لبنانيين في السجون السورية الاقتناع بأنّ اللبنانيين، في أكثريتهم الساحقة، لا ينتمون إلى “التيّار العوني”. اللبنانيون ليسوا سذّجاً، بل يمتلكون بعضاً من ذاكرة تجعلهم يتساءلون لماذا لم يطالب الثنائي الرئاسي بالعسكريين اللبنانيين المحتجزين في سوريا؟ هؤلاء كانوا يدافعون عن قصر بعبدا عندما اجتاحته القوات السوريّة في 13 تشرين الأوّل – أكتوبر 1990. هل نسي جبران باسيل كيف تخلّى ميشال عون عن جنوده ولجأ إلى السفارة الفرنسيّة بعدما كان وعد، بالصوت والصورة، بأنّه سيكون “آخر من يغادر السفينة”؟
بعض الاحترام للذات ضروري، خصوصاً بالنسبة إلى شخص يطمح إلى أن يكون رئيساً للجمهورية. احترام الذات أكثر من ضروري، حتّى لو كان جبران باسيل يسعى إلى تقليد عمّه بأن يكون مرشّح “حزب الله”، أي “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية لرئاسة الجمهورية، بعد انتهاء ولاية ميشال عون في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2022؟
من المفيد لصهر رئيس الجمهوريّة عدم الاستخفاف بعقول اللبنانيين. من المفيد أكثر إدراكه أن الطريق إلى الاحتلال الإيراني، الذي توّج بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة، كان طويلًا.
لم يأتِ الاحتلال الإيراني من فراغ. كان الاحتلال الذي وقع تحته لبنان، ووقعت تحته أجزاء من سوريا لاحقاً، نتيجة جهود دؤوبة استغرقت أربعة عقود تقريباً. كانت نقطة البداية دخول المجموعة الأولى من رجال “الحرس الثوري” إلى مدينة بعلبك من الأراضي السورية بتسهيلات من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد المتحالف مع إيران في وجه البعث الآخر في العراق. كان هذا البعث العراقي حليف ميشال عون لدى وصوله إلى قصر بعبدا للمرّة الأولى في أيلول – سبتمبر 1988. هل ينكر ميشال عون انّه حصل على دبابات عراقيّة أرسلها إليه صدّام حسين لمقاتلة حافظ الأسد الذي صار نظامه اليوم حليفاً؟
مؤسف أنّ ميشال عون قاتل “القوات اللبنانية” بدبابات صدّام، لعلّ حافظ الأسد يغفر له ويرضى عنه ويجعل منه رئيساً للجمهوريّة.
مارس حافظ الأسد في العام 1982 لعبة التذاكي. لم يدرك أنّ إيران ستستوعب سوريا لاحقاً، وأنّ ما أقدم عليه ارتدّ على بلده ونظامه، وأن اللعبة التي مارسها كانت سيفاً ذا حدّين لم يستطع وريثه بشّار الأسد، التحكّم بها. منذ اليوم الأوّل لتوليه السلطة صيف العام 2000 ومشاركته في تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري في العام 2005، صار بشّار الأسد جزءاً لا يتجزأ من اللعبة الإيرانية التي انتهت إلى ما انتهت اليه في سوريا ولبنان في الوقت ذاته.
مع مرور أقلّ بقليل من أربعة عقود على الحدث، يتبيّن أن إدخال “الحرس الثوري” إلى لبنان يكشف عمق الارتباط المذهبي لحافظ الأسد بالنظام الإيراني الذي أنشأه آية الله الخميني بعد سقوط الشاه في العام 1979.
ما يعيشه لبنان اليوم استمرار طبيعي لخطّ اعتمدته “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، خط حظي منذ البداية بدعم من حافظ الأسد الذي وجد في التغيير الذي وقع في إيران فرصة لا تعوّض لإنقاذ النظام الأقلّوي الذي عمل من أجل قيامه منذ ما قبل هيمنته المباشرة على السلطة كلّها.
وُضع حجر الأساس لهذا النظام في 23 شباط – فبراير 1966. يومذاك، انقلب الضباط العلويّون على حزب البعث، بكلّ تخلفه. انقلبوا باسم البعث. صار هذا الحزب الذي انقلب سابقاً على السوريين الذين خلّصوا بلدهم من كارثة الوحدة مع مصر في الثامن من آذار – مارس من العام 1963 مطيّة لحافظ الأسد ورفاقه. ما لبث الأسد الأب أن تفرّد بالسلطة، بغطاء بعثي – علوي من جهة ومن سنّة الأرياف من جهة أخرى، وذلك ابتداء من 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970.
منذ وصول “الحرس الثوري” إلى بعلبك وحلوله، برعاية النظام السوري، في ثكنة للجيش اللبناني، هي ثكنة الشيخ عبدالله، بدأ نشاط إيراني في لبنان. استهدف هذا النشاط تغيير هويّة لبنان. من اللافت أنّ العمل العدائي الأوّل للإيرانيين في لبنان، بعد الاستيلاء على ثكنة للجيش اللبناني طبعاً، كان خطف رئيس الجامعة الأميركية في بيروت ديفيد دودج. كان ذلك في تموز – يوليو 1982. خطف دودج وهو من مؤسسي الجامعة الأميركية من داخل حرم الجامعة ونقل إلى طهران، عبر دمشق. بقي محتجزاً سنة كاملة.
لم يستهدف “الحرس الثوري” الجامعة الأميركيّة في بيروت، منذ البداية، عن عبث. استهدف تغيير طبيعة لبنان وهويته وعزله عن محيطه العربي لاحقاً. استهدف كلّ ما هو متنوع وجميل وحضاري في لبنان وكلّ ما له علاقة بثقافة الحياة وبالثقافة والعلم عموماً. بدأ بالطائفة الشيعية… وصولاً إلى ما تحقّق حالياً بعدما صار “الحرس الثوري” يُقرّر من هو رئيس الجمهوريّة الماروني.
لم يحدث شيء بالصدفة في لبنان ولا في سوريا. تغلبّت الغريزة المذهبيّة عند حافظ الأسد في 1982 على كلّ ما عداها. حافظ الرجل على نظامه لكن إيران ربحت سوريا ولبنان… اقلّه في المدى المنظور!
هذا هو الواقع الذي يرفض جبران باسيل الاعتراف به. رهانه على استمرار هذا الواقع، أي على حلف الأقلّيات الذي عمل من اأجله حافظ الأسد، كي يصبح رئيساً للجمهوريّة بفضل الاحتلال الإيراني. كلّ ما تبقّى تفاصيل ومحاولة لخداع اللبنانيين ليس إلّا…