هناك اقتناع في الأوساط السياسية بأنّ عمق المشكلة الواقعة اليوم بين حليفي «حزب الله»، المسيحي والشيعي، «التيار الوطني الحر» والرئيس نبيه بري، عنوانها واحد هو: كيف ستتوزَّع المكاسب في السنوات الـ6 المقبلة، بعد إنهاء الرئيس ميشال عون ولايته؟
ليس سرّاً أنّ بري لم يستسغ وجود عون في الرئاسة منذ أن عاد من باريس في 2005. وقد بذل كل جهد لمنع أن يصل عون إليها من خلال اتفاق الدوحة 2008. وقيل لعون آنذاك: «خَيرها بغيرها». وبالنسبة إليه، كان يعني ذلك أن «حقَّه» مصان في انتخابات 2014.
العالمون يقولون: راهن بري على الوقت لإضاعة المسألة. فالزمن كفيل بخلط الأوراق. ولكن، عندما أنهى الرئيس ميشال سليمان ولايته، وقف عون بالمرصاد: «أنا أو لا أحد». وكان بري يدعم وصول «وسطي» أو النائب سليمان فرنجية. ولكن، بسبب «عناد» عون، أُبقِيَ مقعد الرئاسة شاغراً حتى تمّ التوافق عليه في خريف 2016.
في هذه السنوات كلّها، أين كان يقف «حزب الله» فعلاً؟ هل كان يدعم شريكه الشيعي من تحت الطاولة ويعطِّل وصول عون؟ أم كان يدعم عون باعتباره الحليف المسيحي الأقدر على تأمين تغطية سياسية وشعبية له، ويفضِّله في الرئاسة لهذا السبب على حليفه الآخر القديم والوفيّ جداً فرنجية؟
البعض يؤكد الفرضية الثانية. فلو تمّ فعلاً اختيار فرنجية، لربما كان عون قد بقي في موقع التحالف «الاستراتيجي» مع «الحزب»، لكنه كان سيمضي 6 سنوات معترضاً ومشاكساً. وهذا ما يشكّل إحراجاً سياسياً لـ»الحزب»، ويضعف تغطيته المسيحية. ولذلك، بين الحليفين المارونيين، وبمعزل عما إذا كان «الحزب» يرتاح أكثر إلى فرنجية، فإنه اختار عون في النهاية.
ثمة مَن يعتقد أن «الحزب» ترك اللعبة تدور آنذاك بين بري وعون من دون أن يتدخَّل، لعل الأمور ترجّح كفّة أحدهما وتُحسَم المعركة تلقائياً، فلا يتحمّل المسؤولية تجاه أي منهما، ولا يُزعِّل أحداً. لكن عون كان بارعاً، بمقدار ما يملك من أوراق. ونجح في تدعيم حظوظه بالحصول على تغطية ثمينة من خصمه المسيحي الدكتور سمير جعجع، وأصبح «مرشّح المسيحيين» بلا منازع.
اليوم، اللعبة تبدو إياها في العمق: من سيكون الرئيس بعد عون؟ هل هو عون مجدداً، من خلال «فتاوى» الاستمرار في الموقع لضرورات تسيير المرفق العام، أو هو عون أيضاً من خلال انتخاب باسيل؟ أم جاء دور فرنجية؟
فرنجية هو اليوم «رفيق نضال» لبري في ملف المرفأ. فالمحقق العدلي طارق البيطار «يستهدف» رموز الرجلين بالتساوي. ويجد رئيس المجلس نفسه مع فرنجية على المتراس في مواجهة عون. وهذا «التمترس» يفتح معركة الرئاسة باكراً. ولكن، قَبلها، معركة الانتخابات النيابية إذا تقرَّر إجراؤها.
وفي النهاية، سيظهر موقف «حزب الله» الفعلي في مسألة الانتخابات الرئاسية: هل هو مع استمرار «الوكالة» لعون (أي باسيل اليوم) أم سيمنحها لفرنجية الذي قيل له أيضاً، في العام 2016، «خيرها بغيرها»؟ وفي عبارة أكثر دقَّة، هل تبدّلت المعطيات التي دفعت «الحزب» إلى تفضيل عون (أي باسيل اليوم) في موقع الرئاسة؟
مراهنة عون وباسيل هي هنا تحديداً: مهما تقلّبت الأمور، ستبقى الكلمة لـ»حزب الله» لا لسواه في ملف الانتخابات. وهو ما زال يعتبر أن «التيار الوطني الحرّ» هو الأقدر على توفير التغطية المسيحية له في المسائل الاستراتيجية.
والقائلون بهذا الرأي يعتقدون أن انتقادات عون وباسيل لـ»حزب الله» هي مناورة تهدف إلى الإيحاء للخارج بأن «التيار» يَتمايز عن «الحزب»، وتالياً لا مبرِّر لفرض العقوبات على باسيل ومنعه من الوصول إلى موقع الرئاسة.
كما أن حملات باسيل التي تحمل عنوان الدفاع عن دور المسيحيين يمكن أن تخدمه شعبياً في البيئات المسيحية، مع اقتراب الانتخابات. وهذا الأمر لا يزعج «حزب الله» طبعاً، لأن خسائر «التيار» مسيحياً تقطفها «القوات اللبنانية» وقوى الاعتراض. ومصلحة «الحزب» هي تمكين باسيل من «لملمة» المسيحيين تحت جناح «التيار»، لأن ذلك يكفل حصول «حزب الله» على أوسع تعاطف شعبي مسيحي. ولذلك، يعتقد باسيل أن «الحزب» لن يتخلّى عنه لا اليوم ولا في الانتخابات النيابية ولا في معركة الرئاسة.
إذاً، ما خلفيات «الصفقة» التي حُكي عنها، ثم قيل إنها تعثَّرت أو «أُحبِطت»؟ ولماذا تُرِك «التيار» يتعرّض للانتكاسة بـ»لا قرار» المجلس الدستوري؟
يعتقد المتابعون أن هناك صفقة فعلاً ربما تكون قيد التحضير في هذه المرحلة، وفيها سيباع كثيرون هنا وهناك. وليس مؤكداً أنها أحبِطت. وعلى الأرجح، لا يمكن إبرام الصفقة إلا عندما يقول «حزب الله» كلمته فيها. وهو لن يتسرّع في التخلّي عن عون وفريقه السياسي باكراً، خصوصاً أن أمامه في السلطة قرابة العام.
وبالتأكيد، «حزب الله» يجهّز الخطط الكاملة لمواجهة المرحلة المقبلة، وفيها يضع كل طرفٍ في المكان الذي يناسبه. وبالنسبة إليه، هذه مرحلة انتظار لما ستسفر عنه المفاوضات الإيرانية – الأميركية حول الملف النووي ونفوذ طهران الإقليمي. وهو يفضّل عدم الحسم في شيء داخلياً حتى تتبلور النتائج خارجياً، بما في ذلك ملفات الانتخابات النيابية والرئاسية والحكومة.
وللتذكير، عندما كان عون يخوض معارك الوصول إلى الرئاسة، بين 2014 و2016، كان الأميركيون والإيرانيون غارقين في ورشة الإعداد للاتفاق النووي الذي أُبرم في 2015. واليوم، يبدو السيناريو نفسه قيد الاستعادة. ولذلك، تحريك السيناريو داخلياً ينتظر اكتمال عناصر الفيلم وجهوزية المُخرِج.