قدّم رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، مقترحاً من سبعة محاور بعنوان «نحو لبنان المدني»، ودعا إلى استفتاء حوله في الانتخابات النيابية المقبلة. فأين مكامن الخلل البنيوي في هذا المشروع؟
تجاهل النائب جبران باسيل تماماً جوهر الأزمة اللبنانية، واكتفى بمقاربة للنصوص الدستورية، وكأنّ ما يحول دون قيام الدولة سببه دستوري ويتعلق بثغرات من هنا، وتعديلات من هناك، فيما وثيقة الوفاق الوطني في اتفاق الطائف ارتكزت على جانبين أساسيين: الجانب المتعلِّق بالنصوص الدستورية تحقيقاً للشراكة والمساواة، والجانب المرتبط بالتسوية التاريخية التي من دونها لم يحصل الاتفاق على التعديلات الدستورية، وقوام هذه التسوية نهائية الكيان اللبناني مقابل عروبته، والإصلاحات السياسية مقابل خروج الجيش السوري، وما بينهما إعادة الاعتبار للدولة ودورها.
فالتعديلات الدستورية هي مسألة إجرائية، فيما الانقسام الحقيقي بين اللبنانيين قبل الحرب وإبّانها وبعدها، ليس حول النصوص الدستورية، إنما حول النظرة إلى لبنان ودوره، وكان الاعتقاد انّ اتفاق الطائف حسم الخلاف بين من يريد إلحاق لبنان بدول أخرى وضمّه إلى محاور إقليمية، وبين من يتمسّك بنهائيته، وليس عن طريق الصدفة أُطلق شعار 10452 كلم، إنما تعبيراً عن حدود لبنان ورفض تذويبه في محاور سورية وعروبية.
وغير صحيح انّه كان بالإمكان تلافي حرب العام 1975 لو تمّ إقرار الطائف مثلاً في العام 1974، لأنّ الوجدان الإسلامي كان مؤيّداً للثورة الفلسطينية وإزالة إسرائيل من الوجود ومبدّياً الثورة على الدولة، فيما الهدف من مطلب تعديل النظام كان إزالة العوائق الدستورية والسياسية أمام الكفاح الفلسطيني، ولو كانت التعديلات الدستورية هي سبب الحرب لكان يُفترض ان تستعيد الدولة مقوماتها مع اتفاق الطائف، الأمر الذي لم يحصل بفعل استمرار الانقسام بين من هو مؤيّد لبقاء الجيش السوري ومن هو مع خروجه، وبين من هو مع المقاومة ومن هو ضدّها.
ويعلم النائب باسيل نفسه انّ الخلاف الرئيسي منذ العام 2005 هو حول سلاح «حزب الله»، فيما كل الخلافات الأخرى ثانوية أمام هذا الخلاف، ومن غير الجدّية تقديم ورقة سياسية لا تقارب عمق الأزمة اللبنانية، وعبثاً البحث في حلول وإطلاق شعارات او التقدُّم باقتراحات لا تلامس ولا تحاكي حقيقة الأزمة التي تعيق قيام الدولة.
وغير صحيح انّ الخروج من الأزمة اللبنانية يكون من خلال مخارج دستورية أكانت بـ»نحو لبنان المدني» أم «نحو لبنان الفدرالي» أم «نحو لبنان العلمنة» أم «نحو لبنان التقسيم» وإلى ما هنالك من أفكار وأنظمة وأشكال دستورية، لأنّ الفريق الذي حال دون تطبيق اتفاق الطائف سيحول دون تطبيق أي صيغة دستورية جديدة، وبالتالي ما لم تُعالج الإشكالية الحقيقية المتمثلة بالسلاح الخارج عن الدولة، عبثاً الكلام بالأنظمة الدستورية، وهذا ليس فقط تضييعاً للوقت، إنما هي محاولة لبلف اللبنانيين والضحك عليهم والتعمية عن سابق تصور وتصميم على المعضلة الأساسية التي تعوق قيام الدولة.
فالمحاور السبعة التي عدّدها باسيل جديرة بالنقاش، ولكن الاتفاق حولها، ويا للأسف، لا يقدِّم ولا يؤخّر، لأنّ مصيرها سيلقى مصير بنود الطائف نفسها فتكون بحكم المعطّلة، والأهم انّها لن تُخرج لبنان من أزمته، كون هذه الأزمة لا علاقة لها بإقرار القانون المدني الموحّد للأحوال الشخصية ام عدم إقراره، ولا علاقة لها بإقرار اللامركزية الإدارية والمالية أم عدم إقرارها، ولا علاقة لها بإنشاء مجلس شيوخ ام عدم تشكيله، ولا علاقة لها بإنشاء صندوق ائتماني يملك أصول الدولة ويديرها ام عدم تشكيله، ولو أُقرّت سُباعية باسيل على النحو الذي يريده ماذا تُبدِّل في واقع لبنان المأزوم، طالما انّ القرار الاستراتيجي للدولة بيد «حزب الله»، ومجرّد ان تكون الدولة فاقدة لهذا القرار يعني أن لا حرية ولا عدالة ولا مساواة ولا قانون ولا دستور ولا استقرار ولا أمن ولا أمان ولا قضاء ولا مؤسسات، والفساد سيبقى سيّد الموقف، ومغامرات توريط لبنان في حروب خارجية قائمة وعزل لبنان سيتواصل واستخدام السلاح في الداخل سيبقى ضمن خيارات هذا الفريق عندما يجد انّه غير قادر على فرض شروطه السياسية، وبالتالي من العبث البحث في تطوير النظام وإصلاحه قبل البحث في العلّة الأساسية التي تعطِّل هذا النظام وتشلّ الحياة السياسية والمتمثلة بوجود سلاح خارج إطار الدولة.
وغير صحيح إطلاقاً ما قاله باسيل إنّ «فشل الدولة سببه سوء النظام، وإنّ الحلول لأزماته تكمن في إصلاحه»، لأنّ العلّة ليست في النظام، إنما في السلاح الذي يعطِّل هذا النظام وأي نظام آخر. وغير صحيح أيضاً انّ وثيقة الوفاق الوطني «فرضتها معادلات وموازين خارجية»، لأنّ المشكلة ليست بالوثيقة بحدّ ذاتها، إنما في تطبيقها الذي خضع لمعادلات وموازين خارجية أدّت إلى الانقلاب على اتفاق الطائف وسورنته.
وإذا كان لباسيل حسابات نيابية ورئاسية مع «حزب الله» تمنعه من مقاربة حقيقة الأزمة اللبنانية، وإذا كان يعتبر انّ باستطاعته نقل النقاش السياسي وحرفه عن المعضلة الأساسية إلى ملفات ومواضيع وقضايا مهمّة ولكنها لا تعالج أساس المشكلة الوطنية، فهذا الأمر لم يعد ينطلي على أحد، خصوصاً بعدما انهار كل شيء في لبنان تقريباً، ولم يعد بالإمكان مواصلة سياسة التعامي على الحقائق، إنما المسؤولية الوطنية تستدعي الإقرار بالحقائق السبع التالية:
الحقيقة الأولى، انّ الانقسام بين اللبنانيين هو انقسام واسع وعميق وكبير بين من هو مع سلاح «حزب الله» وبين من هو ضدّ هذا السلاح. ومعلوم انّ الحزب ليس في وارد تسليم سلاحه، ومعلوم أيضاً انّ الفريق الآخر ليس في وارد التسليم برفض تسليم السلاح، ومعلوم أيضاً وأيضاً انّه يستحيل بناء وطن ودولة في ظلّ انقسام من هذا النوع، كما يستحيل بناء دولة في ظل سلاح خارجها يحدِّد خياراتها الاستراتيجية.
الحقيقة الثانية، أن لا جدوى من النقاش في أي صيغة دستورية ما لم يسلِّم «حزب الله» سلاحه للدولة اللبنانية، لأنّ مطلق أي صيغة ستكون بحكم المعلّقة والمعطّلة، كما انّه سيمنع إقرار اي صيغة تحدّ من دوره وسلاحه.
الحقيقة الثالثة، انّه يستحيل بناء وطن ودولة في ظلّ انقسام بين نظرتين للبنان: بين من يريد لبنان المقاومة وإزالة إسرائيل من الوجود وإسقاط الاستكبار الأميركي والتعبئة على العنف والقتال ومجتمع الحرب، وبين من يريد لبنان مساحة للسلام والاستقرار والازدهار وإحياء سويسرا-الشرق و«وطن الرسالة».
الحقيقة الرابعة، انّ لبنان لا يمكن ان ينهض مجدّداً ما لم تُحسم مسألة الانتماء والولاء لهذا البلد، ما يعني انّ الأولوية في كل شيء يجب ان تكون للبنان، ولا شيء يُعلى على المصلحة اللبنانية، فهل أولوية «حزب الله» مثلاً هي للبنان أم لإيران؟ وهل ولاء هذا الحزب هو لإيران ام للبنان؟ وهل يبدّي المصلحة اللبنانية على الإيرانية أم العكس؟ وماذا لو اصطدمت المصلحة اللبنانية مع الإيرانية اين يتموضع الحزب؟
الحقيقة الخامسة، انّه يستحيل قيام دولة على غرار أي دولة حديثة في العالم، ما لم يُعاد الاعتبار للحياد واتفاق الهدنة والالتزام بالدستور وقرارات الشرعية الدولية ومنع اي تدخُّل في شؤون لبنان الداخلية.
الحقيقة السادسة، انّه يستحيل بناء أمّة لبنانية إذا استمر تفكير أي جماعة إما بمسحنة لبنان او أسلمته او تشييعه، وما لم تسلِّم كل الجماعات والأحزاب والتيارات والقوى بأنّ هذا البلد هو مساحة للعيش معاً بشراكة وحرّية، بهدف إنجاح تجربة إنسانية حياتية تفاعلية. فلا جدوى من أي نقاش، لأنّ محاولات تغيير هوية البلد وطبيعته ستتواصل تبعاً لموازين القوى الخارجية وتبدّلها.
الحقيقة السابعة، انّ اللبنانيين وصلوا إلى قناعة، ويا للأسف، ومن دون لف ودوران، انّه يستحيل الوصول إلى تفاهم لبناني-لبناني حول أي لبنان نريد بالحوار بين المكونات اللبنانية، إنما رهان الجميع المضمر او المعلن على التطورات الخارجية التي، إما تفضي إلى تسليم لبنان لطهران وإما يُصار إلى كفّ يدها عنه فيسلِّم حزبها سلاحه، وإما يستمر الأمر الواقع القائم، فلا حل في لبنان سوى بغالب ومغلوب، وفي حال غلب مشروع الدولة سيكون الانتصار لكل الشعب اللبناني من دون استثناء، لأنّ الدولة هي للجميع وتحكم بالعدل والمساواة تحت سقف الدستور والقانون.
إنّها سبع حقائق أساسية تسبق أي نقاش في سباعية النائب باسيل، التي لا يمكن تفسيرها سوى كونها تنمّ عن محاولة للهروب من الإشكالية الحقيقية المتعلقة بسلاح «حزب الله» لاعتبارات تحالفية وحاجة باسيل للحزب في الاستحقاقين النيابي والرئاسي، وطالما انّه ليس من مصلحته مخاصمة الحزب ومواجهته، وليس من مصلحته ان يخوض الانتخابات من موقع الدفاع عن النفس بأنّه حليف للحزب الذي يمنع قيام الدولة، قدّم مقاربة سباعية، كل الغاية منها حرف النقاش عن الأسباب الجوهرية للأزمة اللبنانية.