بعد ثلاثة أسابيع من الانفجار الكارثي في بيروت، تبخرت أوهام بعض اللبنانيين بعودة الاهتمام الدولي ببلدهم واستأنفوا عيشهم السابق بين أزمتين سياسية واقتصادية خانقتين أضيفت إليهما نكبة قسم من أحياء العاصمة التي لم تُكشف كل نواحيها بعد.
أُطفئت أضواء وسائل الإعلام، وغادر المبعوثون الدوليون، وبدأت السفن الحربية التي جاءت في الأسبوع التالي للانفجار بالرحيل، وتعرض قسم من المساعدات العينية للسرقة كما كان متوقعاً. الرهانات التي ما زال محللون اعتادوا المبالغة في أهمية بلدهم يعلقونها على زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع سبتمبر (أيلول) لن تنجح في تغيير المناخ السياسي العام، الذي عاد إلى آليات تفككه السابقة على الانفجار، وزاد عليه الفراغ الحكومي بعد استقالة حكومة حسان دياب التي مثلت فشلاً مدوياً لخيار سلطة اللون الواحد.
تركُّز أضرار انفجار الرابع من أغسطس (آب) في الأحياء الشرقية المسيحية من بيروت، وسقوط عدد كبير من الضحايا هناك، ودمار عدد من المعالم المعمارية التي نجت من الحرب الأهلية، تسببت كلها في صدمة ربما تفوق تلك التي أصابت مسلمي بيروت، رغم أن عصف الانفجار لم يوفر بيوتهم وشوارعهم؛ ذاك أن الانفجار حرّك من دون قصد ربما، الخوف المسيحي العميق من الإبادة والتهجير.
وبغض النظر عن دقة الأرقام وإحصاء انتماءات الضحايا الدينية ومن بينهم الكثير من غير اللبنانيين، لم تمر الكارثة من دون استغلال سياسي من أكثر من طرف. تصريحات زعماء القوى المسيحية صورت النازلة وكأنها محصورة بجمهورهم. وذهب بعضهم إلى تسميتها «انفجار الأشرفية». وعلى جاري العادة، تفوق ممثلو الحزب الحاكم، «التيار الوطني الحرّ»، على منافسيهم في دفع الاستغلال إلى الابتذال وصولاً إلى تصوير الانفجار كأنه هجوم معد عن سابق إصرار وتصور لتهجير المسيحيين.
لا شيء من ذلك. ويعرف العونيون خواء ادعاءاتهم قبل غيرهم. بيد أن المسألة تكمن في مكان آخر، فالانفجار سرّع حالة التفكك والإفلاس التي بدأ «التيار الوطني» يعانيها منذ انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وإخفاقه في إبعاد نفسه عن اتهامات الفساد وقضاياه العديدة التي أحاطت بكبار مسؤوليه، وفشل حكومة حسان دياب التي أيدها في تحقيق أي تقدم على صعيد علاج المصائب المتنوعة، بسبب إصرار رئيس التيار الوزير السابق جبران باسيل على التدخل في كل تفاصيل العمل الحكومي، ما أدى إلى شلل السلطة التنفيذية قبل أن تنهار بالضربة القاضية في انفجار المرفأ.
استعادة الالتفاف المسيحي حول التيار بدت مهمة ملحة لتطويق الخسائر على الجبهات المختلفة التي تصاعدت مع دعوة البطريركية المارونية إلى «الحياد النشط» الذي يستدعي إبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية، ما اعتبره «حزب الله» الحليف الوحيد للتيار الوطني وحاميه ومُسهّل استيلائه على الدولة، صفعة موجهة إليه، نظراً إلى إصرار الحزب على ربط لبنان بكل الصراعات في المنطقة بذريعة العمل على تحرير القدس والصلاة في مسجدها الأقصى. ورد الحزب بحملة عنيفة عبر وسائل إعلامه وصلت إلى تخوين البطريرك بشارة الراعي واتهامه بالعمالة لإسرائيل.
عبء التوريط الذي يقوده «حزب الله» بات ظاهراً للعيان من خلال العزلة العربية والدولية التي يعاني منها لبنان، كما خرج من جدول اهتماماتها التي كان يحتل فيها مرتبة متقدمة سابقاً، ناهيك عن الرقابة الشديدة التي يفرضها الغرب على الحركة المالية في لبنان، خشية استفادة «حزب الله» وإيران منها أولاً، ونظراً للتعثر الذي أصبح سمة المصارف اللبنانية ثانياً.
في المقابل، تحركت أجهزة مشبوهة في الشمال فقتلت خلية إرهابية ثلاثة أشخاص في بلدة كفتون ما صبّ المزيد من الماء في طاحونة الدعوات إلى حماية المسيحيين وتعزيز تحالفهم مع القوة المسلحة القادرة على توفير الأمن لهم، وسوى ذلك من خطابات التحريض والتهويل المزدوجة الاستخدام.
ويبدو أن ليس من خيار أمام تحالف «حزب الله» والتيار الوطني الحر سوى التمسك بما يجمعهما والإصرار على تشكيل الحكومة المقبلة من شخصيات موالية للتحالف ولاء كاملاً غير منقوص، خدمة لتصور يسود «محور المقاومة» عن أن الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ستأتي بالمرشح الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، وستنتهي بمجيئه العقوبات الأميركية على إيران ويتنفس المحور الصعداء.
استراتيجية إرجاء الاستحقاقات الداخلية في انتظار حدث دولي كبير ليست بجديدة على الأدوات التي ينظر الممانعون فيها إلى العالم حولهم، لكنها تتجاهل أن القدرة على ضبط الأوضاع المتهالكة في لبنان تتناقص، وأن الأمن والاقتصاد وقطاعات أخرى عديدة على وشك التدهور والتحول إلى حطام وأنقاض. وليس في يد العونيين وحليفهم حسن نصر الله سوى اللجوء إلى المزيد من العنف أو التحريض عليه والتهويل به، وهو ما لم يعد بكافٍ أمام ملايين الأفواه الجائعة والعيون الدامعة.