عمل القاضي البريطاني توماس مور المولود في العام 1478 بالسلك الدبلوماسي والبرلماني حتى أن الملك هنري الثامن رقّاه لمنصب سفير. ولمّا لم يصدر فتوى ببطلان زواج الملك ليتزوّج عشيقته آن بولين، مقابل تنصيبه رئيساً للكنيسة البريطانيّة، سجنه وعذّبه وأعدمه بعد محاكمة صوَريَّةٍ في العام 1535.
والسير توماس مور هو واضع كتاب Utopia في العام 1516 الذي يصف فيه جزيرة خياليّة في المحيط الأطلسي. وفي لبنان، كثر اليوتوبيّون الذين ما زالوا على جزيرتهم الرابضة في المحيط اللبناني. وهم حتّى الساعة لا يريدون الاعتراف بأنّ جزيرتهم تغرق، وهي أساساً، من نسج خيالهم.
ومنهم النائب جبران باسيل الذي ما زال مصرّاً على الرّدّ على ما تناول به تيّاره، رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع في قدّاس شهداء المقاومة اللبنانيّة يوم الأحد في الرابع من أيلول المنصرم. وخطاب باسيل الممجوج هو عينه منذ ولادته سياسيّاً على حساب مواجهة خصمه في الشارع المسيحي أي حزب القوات اللبنانيّة. النفايات والمقابر وأسطوانة العمالة والعداء للغرب وأميركا، والاتّهامات بالخيانة والطعن بالظهر التي يمارسها يوميّاً بحقّ رفقائه في التيّار أوّلاً. واللائحة تطول… لأنّه فاقد الحجّة والمنطق، ولا يستطيع مقارعتها بالمثل. حتّى بات أيّ متابع يطرح الإشكاليّة الآتية: ماذا لو لم يكن هنالك حزب اسمه قوّات لبنانيّة، هل بقي هذا التيار موجوداً؟
للتّاريخ فقط، علّة وجود التيّار العوني كانت عداءه لسوريا الذي وحده أمّن دخولها إلى المنطقة الحرّة، وساهم معها بتدميرها. وبعد متابعته مسيرة نضاله من وراء الحدود، أعلن أبوّته للقرار الدّولي 1559، وبالطبع سرعان ما كشف التاريخ زيف ادّعائه هذا، وبعد إبرامه صفقة العودة مع الاحتلال السوري، وخوضه الانتخابات النيابيّة على أساس العداء له، وبعد الانسحاب السوري في 26 نيسان 2005، بعدما تمّ اغتيال دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري من قبل أعضاء منتسبين لمنظمة «حزب الله»، تحالف مع هذه المنظمة، وأهداها لبنان من على مذبح رئيس الملائكة مار ميخائيل في منطقة الشياح في 6 شباط 2006، مقابل هيمنته على الدّولة والمؤسّسات، ممارساً فيها تربيته في العمل بالشأن العام، عاثّاً الفساد والزبائنيّة والكيديّة أينما حلّ.
وبعد هذه المرحلة، استنهض خطاب الحقد والكراهية، ليتحوّل عداؤه للقوّات اللبنانيّة العلّة القديمة لوجوده التي جدّدها في مرحلة 2005، عاطفاً عليها مقولة استرجاع حقوق المسيحيّين التي ما فتئ يتّهم القوّات بتنازلها عنها بموافقتها على اتّفاق الطائف مع البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، متناسياً أنّه بنفسه سبب حصول هذا الاتّفاق بهدف إسكات المدافع السوريّة بعد حربه التحريريّة العبثيّة التي أدّت إلى تدمير المنطقة الحرّة.
وهذا الكمّ الهائل من الحقد أورثه لأجيال وأجيال قادها من بعده صهره الذي كرمى لعيونه عطّل تشكيل الحكومات ليؤمّن له وظيفة تدرّ عليه المنّ والسلوى.
واستمرّت مسيرة الحقد المتوارَث حتّى بعد اتّفاق معراب في العام 2016 الذي جعل منه مطيّة ليهدي عبره رئاسة الجمهوريّة إلى منظمة «حزب الله». ولم يوقف يوماً التهجّم على القوّات. وعندما تردّ القوّات يطالعنا بعض المتسلّقين على أقدام جبال السياسة بقحطهم وقرفهم من هذا الواقع. وتناسى هؤلاء أنفسهم أنّهم هم مَن صنعوا أكثريّته في انتخابات 2005 و2009 وجعلوا منه صاحب الكتلة النيابيّة الأكبر. ولعلّ ما نعيشه اليوم هو نتيجة خيارات هؤلاء الخطأة. وشتيمتهم الصهر وتيار البواخر والفساد، كما أسموه في 17 تشرين، ليست كافية لتبرير خطئهم التاريخي. وما نتج عن هذا التبرير من تصحيح تحت ذريعة « كلّن يعني كلّن» سرعان ما انقلب على هؤلاء، وبات معظم الذين أولوهم ثقتهم في انتخابات 2022 يعيدون حسابات خياراتهم المتسرّعة هذه. وها هم اليوم مطالبون بأن يقولوا كلمة الحقّ في انتخابات رئاسة الجمهوريّة بهدف إيصال رئيس إنقاذي يُعيدُ إلى لبنان كلّه دولة المؤسّسات التي تمّ التنازل عنها لصالح دويلة المنظمة.
وهذه المطالعات الدّستوريّة من جهابذة هذا العهد ليست إلا دليلاً إضافيّاً على فشل حكمه. لأنّه بكلّ بساطة يحاول استغلال الدّستور لتبرير إستمراريّته في هذا الحكم، ولو حتّى ليس عبر الرئاسة الأولى. ولو حتّى أيضاً سبّب الفراغ غير الموجود أساساً في الدّستور. المهمّ أن يبقى في الحكم، لأنّه يعيش وكلّ أتباعه حالة يوتوبيّة على الجزيرة الخياليّة التي بناها لهم مؤسّس تيّارهم في المحيط اللبناني، وأغرق المحيط في جزيرته يوتوبيّاً. هذه الحالة اليوتوبيّة انتهت لأنّها في الأساس هيولى خياليّة فلسفتها الوحيدة الحقدولوجيا.
يكفينا فخراً، إن متنا يوماً في نضالنا أن نقول كما قال السير توماس مور فيما هو يتقدم إلى المقصلة منفّذاً حكم الإعدام بحقّه، لافظاً أنفاسه الأخيرة، نتيجة لتعذيبه الشديد في السجن، عبارته الشهيرة: «هأنذا أموت في سبيل الكنيسة، خادم الملك الأمين، ولكن خادم الله أولاً». وهكذا نحن نعيش ونموت على رجاء القيامة، خدّام الإنسان والدولة والله.