يقول جبران باسيل إنّ الفوضى الدستورية من هنا ستقابلها فوضى دستورية من هناك. وهذا يعني أنّ هناك فرصة محدودة بنحو 40 يوماً، بدءاً من اليوم، لتجاوز الفوضى الآتية حتماً، ومن كل الجهات.
إذا وصل البلد إلى ليل 31 تشرين الأول – 1 تشرين الثاني 2022، ولم يتمّ تشكيل حكومة جديدة أو انتخاب رئيس جديد للجمهورية – الأمر المتوقع حتى اليوم – فمعنى ذلك أنّ لبنان سيدخل حتماً في المجهول، لأنّ الرئيس ميشال عون مُصرّ على إحباط أي محاولة لتسليم صلاحيات الرئاسة إلى حكومة تصريف الأعمال، أيّاً كان الثمن. وكلام رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل واضح في هذا الاتجاه.
ولتأكيد ذلك، جهّز عون نفسه باجتهادات دستورية تولّى تحضيرها اختصاصيون بارعون في الدستور. وسيحتاج نقضها إلى جهود كبيرة يبذلها خصوم عون، استناداً إلى اجتهادات دستورية مقابِلة. والغرق في النقاشات بين «المُجتهدين» لن ينتهي بالحسم ولا مردود فعلياً له، فيما سيقف الرئيس نبيه بري وآخرون ليعلنوا أنّ المجلس النيابي هو المعني الوحيد بتفسير الدستور.
يستند الرئيس نجيب ميقاتي إلى مادة وحيدة في الدستور هي المادة 62، وتقول: «في حال خلو سدّة الرئاسة لأي علّة كانت، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء». وقد فُهِم من هذه المادة، بالتفسير البسيط والمباشر، أنّ الحكومة هي التي تتولّى صلاحيات الرئيس.
ويذهب مؤيّدو هذا التفسير إلى القول: بما أنّ المشرّع لم يحدِّد ما إذا كانت الحكومة فاعلة أو مستقيلة، فهذا يعني أنّه لم يبدِ اهتماماً بالأمر. واستتباعاً، تصبح الحكومة المستقيلة مخوَّلة تولّي صلاحيات الرئيس كما الحكومة الفاعلة.
ولكنّ الدستوريين المحيطين بالرئيس عون وبعض زملائهم من خارج هذا المحيط، يعطون المادة 62 تفسيرات أخرى. وفي الدرجة الأولى، هم يميّزون بين «الحكومة» و»مجلس الوزراء». وهذا التمييز هو الأساس لمنع الحكومة المستقيلة من تولّي صلاحيات الرئيس بالوكالة.
فمجلس الوزراء بالمعنى الدستوري الكامل المواصفات، يتعذّر عليه الانعقاد مبدئياً في ظل حكومة مستقيلة. ولكن الفقرة 12 من المادة 53 من الدستور نصَّت على ما يأتي: «يدعو (رئيس الجمهورية) مجلس الوزراء استثنائياً، كلما رأى ذلك ضرورياً، بالاتفاق مع رئيس الحكومة».
وهذا يعني أنّ الدستور منح رئيس الجمهورية حقَّ الدعوة إلى انعقاد مجلس الوزراء، ولو في حكومة مستقيلة، في شكل «استثنائي»، إذا ارتأى ذلك، شرط أن تتمّ الدعوة بالاتفاق مع رئيس الحكومة.
وبناءً على هذا التفسير، ليس هناك «مجلس وزراء» مُكتمل الصلاحيات الدستورية إذا لم يبادر رئيس الجمهورية إلى طلب انعقاده. ولذلك، في حال شغور موقع الرئاسة، ستنتفي نهائياً أي قدرة على انعقاد مجلس الوزراء. وتالياً، من زاوية دستورية، لن يكون هناك وجود لمجلس الوزراء في غياب الرئيس. وهذا المجلس هو المخوَّل وحده أن يتولّى صلاحيات رئيس الجمهورية، وليس الحكومة المستقيلة.
ويعتبر هؤلاء الدستوريون أنّ هذا التفسير يقطع الطريق على أي اجتهاد آخر. كما أنّهم يستندون إلى منطوق المادة 64 من الدستور للقول بعدم قدرة حكومة مستقيلة على تَولّي صلاحيات الرئاسة. فهذه المادة تطلب من الحكومة المستقيلة أن تلتزم تصريف الأعمال بالمفهوم الضيِّق وضمن الحدّ الأدنى من مهماتها، وبهدف تأمين استمرار أعمال الدولة وحاجات المواطنين، إلى أن يتمّ تأليف حكومة جديدة فاعلة.
وبناءً على هذا التكليف المحدود والمحدَّد، يصبح بديهياً أنّ الحكومات المستقيلة ليست مُخوَّلة أن تبادر بنفسها إلى توسيع مهمّاتها لتشمل صلاحيات المرجع الدستوري الأعلى ورأس السلطة التنفيذية في البلد.
إذاً، يقوم اليوم كل طرف بتجهيز العدَّة لِما بعد الشغور، وبكل ما يمكن من عدّة المواجهة، دستورياً وسياسياً. والاجتهادات الدستورية المتضاربة باتت حاضرة وواضحة، لكن أحداً لا يستطيع التكهّن بالخطوات التي سيلجأ إليها عون، قبل حلول أول تشرين الثاني، موعد فقدانه كل أوراق القوة الدستورية.
التوقعات والتحليلات كثيرة، لكن أوساط القصر تتجنَّب البَوح بشيء عن الخطوة المنتظرة. ومن الخيارات المتداولة لجوء عون إلى تكليف باسيل تشكيل حكومة انتقالية، ما يذكّر بمرحلة الحكومتين في نهاية عهد الرئيس أمين الجميّل. لكن هذا الأمر لم يعُد دستورياً بعد الطائف وتعديل صلاحيات الرئيس. والأرجح أنّ عون سيتجنّبه.
وما دام متعذّراً انتزاع التكليف من الرئيس نجيب ميقاتي أو تسمية بديل منه، يتمّ التداول أيضاً بإمكان سحب أكبر عدد ممكن من الوزراء المسيحيين من الحكومة الحالية، بهدف إفقادها ميثاقيتها. لكن هذا الأمر دونه صعوبات على أرض الواقع، ولن يوصِل إلى نتيجة.
يقول البعض إنّ عون يبدو اليوم وحده مُحاصَراً بالمهلة الدستورية، فيما الآخرون جميعاً يتمتّعون بهوامش الوقت. وعلى رغم ذلك، الجميع يتصرّف ببرودة، ولا يبدو أحد مستنفراً لابتكار تسوية. لماذا؟
في مراحل سابقة، في 1988 وفي 2005 مثلاً، تعرَّض عون للمحاصرة بأشكال مختلفة فكانت ردّات فِعله صادمة. ومع كل صدمة، كانت تحصل تحوّلات كبرى في البلد، ولا تتوقف التردُّدات لسنوات وسنوات.
فهل المطلوب اليوم أخذ الوضع اللبناني إلى صدمة أخرى، وإلى أين ستقود تردداتها؟