لم تمرّ زيارة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين كسابقاتها، فتداعيات الزيارة ما لبثت أن بدأت بالرغم من التفاؤل المبطّن الذي أعلنه الوسيط الأميركي نفسه لدى خروجه من القصر الجمهوري ومن تأكيد وزير الخارجية عبدالله بوحبيب أنّ الترسيم أصبح منجزاً بنسبة 95% ، هذا موقف لا يمكن أن يخرج به بو حبيب ما لم يحظَ بموافقة دوائر القصر أو بناءً لتكليف منها. الزيارة الخاطفة لبيروت التي توزّعت على دارات الرؤساء والتصريحات التي أعقبتها تدلّل على اختلاف زاوية الرؤيا لدى كلّ منهم لموضوع الترسيم ودائماً تحت المظلّة الأميركية. الرئيس بري يريد العودة الى التفاوض غير المباشر في الناقورة تحت مظلّة الأمم المتّحدة وبوساطة أميركية، فيما يريد الرئيس ميقاتي ربط الترسيم البري بالترسيم البحري واعتماد النقطة (B1 رأس الناقورة ) كنقطة مرجع لعملية الترسيم.
موقف الرئيس ميقاتي يمكن فهمه على قاعدة «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً» فهو يعلم أنّ اعتماد النقطة B1 يعني العودة للمطالبة بالخط 29، الذي دخل عالم النسيان بعد إعلان الرئيس بري الإتّفاق الإطار الذي استند الى الخط 23 وبعد إسقاط الرئيس ميشال عون للخط 29 من التفاوض وإعلان أمين عام حزب الله وقوفه خلف الرئيس عون وثقته المطلقة به.
أما دعوة الرئيس بري للعودة الى التفاوض غير المباشر فليس مردّها الى تبايْن في الموقف من الخط 23 الذي يعتبر بري عرّابه، بل إلى الصدام الحتمي في المصالح على خلفيّة الإستثمار في مرحلة ما بعد الترسيم. تقدّم طريقة التفاوض المعتمدة حالياً عبر هوكشتاين فرصة دائمة للرئيس عون لتمرير الرسائل للإدارة الأميركية التي يمكن توظيفها في الإستحقاق الرئاسي لصالح النائب جبران باسيل، أو ربما لتوسّل الدعم لأي إجراء قد يتّخذه عون عند حصول الفراغ الرئاسي لقاء الثبات على الموقف الحالي من الترسيم، وتأكيد الجاهزية لتحمّل النتائج، وما شعار الـ 95% الذي رفعه بو حبيب إلا تعبيراً كميّاً عن تأييد رئاسة الجمهورية لما سيحمله هوكشتاين دون تردد، ولما سيتمسّك به باسيل في حال وصوله للرئاسة وربما الإستعداد للذهاب إلى أبعد من ذلك.
وفي السياق عيْنه يمكن ملاحظة التناقض الذي حمله إعلان نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب لمحطة LBCI عن تلقّي لبنان بالأمس مخططاً بإحداثيات خط العوامات البحرية الإسرائيلية، وعن وجود نقاط بين البلوكات والشاطئ اللبناني تمّ الحديث عن ترتيب معيّن لها، وأنّ أحداً لم يطلب من لبنان التنازل عن أي نقطة برية. إنّ ذلك يحمل في طيّاته أكثر من تناقض تقني، فحدود البلوكات الغربية هي حدود الشاطئ اللبناني ولا وجود لنقاط بين البلوكات والشاطئ، والخلاف كان ولا يزال على النقطة B1 التي تناولها رئيس الحكومة. كلّ ذلك يشير الى افتراق في المواقف بين الرؤساء وأنّ ليس هناك مفاوضات بل مفاوضون لكلّ منهم أجندته الخاصة.
على صعيد آخر وفي سياق تقديم أوراق اعتماد النائب جبران باسيل لحزب الله، يندرج النقاش حول كتاب وزارة الخارجية اللبنانية المُرسل الى مجلس الأمن الدولي في سياق طلب التجديد لقوات اليونيفيل المنتشرة جنوب الليطاني بموجب القرار 1701. فبالرغم من نفي وزارة الخارجية طلبها شطب الأحكام المتعلّقة ببند حصر السلاح بيدْ الدولة، ووقف تدفقه الى منطقة جنوبي الليطاني وتأكيد تمسّكها بالقرار 1559 وسائر القرارات الدولية، فإنّ الصياغة التي اعتُمدت لقرار التمديد رقم ٢٦٥٠ / ٢٠٢٢ تاريخ ٣١ آب ٢٠٢٢، والإستفاضة في التأكيد على القرارات السابقة ذات الشأن، وحثّ الأطراف على إكمال ترسيم الحدود البرية وحرية حركة قوات الطوارىء الدولية لحفظ السلام دون إذن مسبق من أي طرف أو شخص للإضطلاع بمهامها الموكلة إليها، تؤكّد أنّ كتاب الخارجية تضمّن بما لا يقبل الشك محاولة للإلتفاف على القرار 1701 وعلى الدستور اللبناني. ومهما اختلفت التبريرات فإنّ محاولة وزارة الخارجية لا يمكن أن تصنّف إلا كمناورة دبلوماسية تهدف لاحقاً لاستنساخ دور سلاح حزب الله على حدود الخط 23.
تضاف هذه المناورة الدبلوماسية الى المناورة القضائية التي سبقتها والتي عبّر عنها قرار مجلس القضاء الأعلى بتعيين قاضٍ رديف للقاضي طارق البيطار لتصفية قضية تفجير مرفأ بيروت. تعبّر المناورتان المذكورتان عن حدود المغامرة التي قد يذهب إليها الرئيس عون لطمأنة حزب الله، وتلتقيان مع مغامرة الترسيم في سياق تقديم أوراق إعتماد جبران باسيل عبر الوسيط الأميركي.