لا يصدّق رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل أن الرئيس ميشال عون “راجع على الرابية”. يلف ويدور ويستدير ويثور ويهدد بالويل والثبور، من أجل استنفار جمهوره معه لاقتراب موعد ترك السلطة من دون مقدور على البقاء على رأسها. انتصار الترسيم هو الأخير. والدونكيشوتية تدفعه إلى قلب الحقائق، إلى درجة إقناع نفسه وبعض جمهوره بأنه يستطيع الاحتفاظ بأختام الرئاسة التي سلمه إياها عمه لست سنوات، وأن بإمكانه أن يأخذ الأختام معه، إلى الرابية، بحجة أن الموقع “مش رزق ميت صاحبو”.
هكذا يصبح المجيء بالرئيس الجديد إذا كان لا يلتزم مسبقاً تحقيق مطالبه، أو تسلم حكومة الرئيس نجيب ميقاتي صلاحيات الرئاسة في حال الشغور، اعتداءً على “الرزق” الذي يتعامل معه على أنّ ملكيته مسجّلة باسمه ولفريقه في الدوائر العقارية في بعبدا. وسواء قصد ذلك أم لم يقصد، يتعامل باسيل مع موقع الرئاسة وصلاحياتها كأنها (مصدر) رزق ويصدّق أنّ سند الملكية مستخرج ومكتوب له وليس لغيره. وبالتالي على الجهة المخوّلة إصدار صك الولاية المقبلة، أي البرلمان أن “يطوِّبَ له عهداً رئاسياً يبقى تحت إرادته نظراً إلى أنه “مكملين” مع الجنرال.
وعلى اللبنانيين وسائر القيادات السياسية أن يحذروا. فهو يهددهم بالعودة إلى ترشيح نفسه للرئاسة وينذرهم بأن “انتبهوا من تغيير رأينا”، محوّلاً بذلك ترشيحه إلى “فزيعة”، كأنّه، على رغم حالة الإنكار التي يعيشها، أدرك في أحد الأحلام الواقعية، بأنه مرفوض من كافة القوى السياسية بمن فيهم أقرب المقربين إليه، وأقر باستحالة ترشيحه، عبر قوله بأنه قدم “التنازل الأكبر” بعدم الترشح. إلا إذا كان يتراءى له أنّ المراجعة القانونية التي قال إنه تقدم بها أمام القضاء الأميركي ضد العقوبات عليه سيصدر الحكم فيها قريباً، ولمصلحته، مقابل تسهيل الترسيم الذي كشف بأنه لعب دوراً في إنجاحه، على رغم تأكيد السفيرة الأميركية دوروثي شيا أن إدارتها “لا تتعاطى بهذه الطريقة الرخيصة”.
واقع الحال أنّ الجانب الفرنسي، بناء لتنسيق الوسيط الأميركي والإدارة في واشنطن التي تتجنب التواصل مع باسيل الخاضع للعقوبات، طلب منه أن يسهّل الأمور نظراً إلى تأثيره على عمه، ومع “حزب الله” كي تصل المفاوضات إلى نهايتها السعيدة، فأبى إلّا أن يطلب، وعلناً هذه المرة (عبر تصريحه لـ”رويترز) مقابلاً برفع العقوبات عنه.
وثمّة من يقول إن باسيل توهّم أن التسهيلات المالية التي حصل عليها من إحدى الدول العربية بمنحه ائتماناً مالياً يجنبه العقوبات (وهذا يتطلب غض نظر أميركي لتمرير الترسيم)، قد يكون أيضاً إشارة إلى إمكان رفع اسمه من وزارة الخزانة أو الكونغرس عن لائحة العقوبات وفق قانون ماغنتسكي.
مرة أخرى يتصرف باسيل ورئيس الجمهورية وبعض تياره، على أنّ التاريخ يبدأ من عندهم، فلا يتركون مجالاً إلا لتكرار التذكير بأن ملف النفط والغاز اللبناني قد فُتح قبل العهد المنقضي. وإذا قفزنا فوق التنبيهات التي صدرت عن المهندس الراحل غسان قانصوه في منتصف القرن الماضي، لما يختزنه لبنان من ثروة نفطية، فإن احترام الذاكرة يقتضي العودة إلى المسح الجيولوجي الذي طلبه رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري بعد أقل من سنة على توليه رئاسة الحكومة، في العام 1993، فحالت الوصاية السورية دون إكمال الخطوة باتجاه التنقيب، ثم بإعادة الكرة في العام 2001 إبان تولي الوزير الراحل محمد عبد الحميد بيضون وزارة الطاقة، والذي أعلن إثرها أن لبنان يتهيأ لأن يكون دولة نفطية، ثم اكتشف الحريري بناء لرسائل وردته من الجانب السوري، أنّه من الأفضل له أن يقفل هذا الملف.
من الوقائع التي تقتضي استعادتها أنّ السفير فريدريك هوف حين رسم خطاً وسطياً للنزاع البحري مع إسرائيل، في العام 2012 (حكومة الرئيس نجيب ميقاتي)، يعطي لبنان حق الاستثمار في 55 في المئة، في انتظار التفاوض النهائي على الحدود بين الدولتين لترسيمها، فالوزير باسيل اعتبر يومها أنه لا يفهم لماذا هناك مانع للقبول بهذا الخط ثم المطالبة بأكثر منه لاحقاً، رداً على رفضه من قبل رئيس البرلمان نبيه بري و”حزب الله”.
إنه بعضٌ قليل جداً، من وقائع “مسيرة العز”.