يمكن التقدير بأن جبران باسيل، مساء 13 تموز الماضي، كان أكثر المغتبطين بمعادلة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله «الاستخراج مقابل الاستخراج»، وبأن «المسألة ليست فقط بالاعتراف بالحدود البحرية، بل بالإذن للشركات باستخراج النفط والغاز. فلا يكفي أن يقولوا هذه حدودكم وممنوع على الشركات الاستخراج». يومها، أدرك باسيل، المهجوس بالتنقيب والاستخراج وبما «تحت الزيح»، لا بالخط و«الزيح»، أن «الشغل» بدأ فعلياً بعد عشر سنوات من التفاوض العقيم، وأن العمل بدأ على «اتفاق التنقيب» لا «اتفاق الترسيم»، وعلى «قانا مقابل كاريش» التي أطلقها باسيل نفسه في أيار الماضي.
كان الأميركيون والإسرائيليون قد فهموا جيّداً رسالة «مسيّرات» المقاومة فوق «كاريش»، في الثاني من الشهر نفسه، فلم يحتاجوا حتى إلى «جرعة تذكيرية» علنية. حدثت الانعطافة، وأُطلقت صفارة بدء التفاوض الجدّي، تحت معادلة «استخراج مقابل استخراج». معادلة مكّنت لبنان من البقاء واقفاً على رجليه بعدما تبلّغ من الأميركيين ثلاث مرات في الأيام الأخيرة من التفاوض بقرارهم وقف المفاوضات بسبب «التعنّت» اللبناني… وفي المرات الثلاث كان عاموس هوكشتين هو من يعاود التواصل مع الياس بو صعب ويستأنف المحادثات.
في لبنان، يحتاج الاتفاق على تعيين مأموري أحراج إلى توافق سياسي، فكيف الحال مع ملف بحجم ترسيم حدود بحرية واستخراج غاز وتنقيب عن النفط. لذلك، كان التفاوض يحتاج تناغماً تاماً بين الرؤساء الثلاثة، لعب بو صعب فيه دور المنسّق. كان لكل من شكرهم الرئيس ميشال عون في رسالته إلى اللبنانيين، مساء 13 تشرين الأول الجاري، من رؤساء وخبراء وتقنيين، دوره في الوصول إلى التفاهم. لكن، فعلياً، التفاوض على «الفاصلة والنقطة» كان مع باسيل، تحت «قبة صاروخية» وتوازن رعب وفّرهما حزب الله، ولم يتردّد هو في التلويح بهما: إذا لم نتفق فأمامكم حزب الله.
سيحلو لكثيرين، هنا، التصويب على «الصهر» باعتبار أن لا صفة رسمية له للخوض في مفاوضات تتعلق بترسيم حدود الدولة. وقد يصحّ ذلك، نظرياً. فما الذي يميز رئيس التيار الوطني الحر، مثلاً، عن رئيس القوات اللبنانية، ليكون الأول مفاوضاً يقبل ويرفض ويعدّل في مسوّدات كان متيقناً بأنها ستنتهي إلى اتفاق. في وقت كان الثاني يؤكّد، بيقين منقطع النظير عشية نجاح المفاوضات، بأن «القصة معقدة أكثر مما يراها البعض والحلّ ليس سهلاً»؟
بعيداً عن «سماجة» شعار «قوم بوس تيريز»، الجواب واضح: باسيل، بطبيعة الحال، أقرب المقربين إلى رئيس الجمهورية الذي يتولى الملف، وهو موثوق لدى حزب الله ويثق بالحزب ويؤمن بأن معادلة القوة هي ما يعيد للبنان حقه، أضف إلى أنه «ماسك» ملف النفط ويحفظه عن ظهر قلب منذ 2007 حتى ليصح فيه القول إنه «أبو المشروع النفطي» اللبناني.
أثناء زيارته الأولى لقصر بعبدا في تشرين الأول 2021، بعد تعيينه «وسيطاً» في ملف الترسيم، حرص هوكشتين على أن يروي للرئيس عون، أمام أعضاء الوفد، أنه استقبل باسيل، عام 2012، في «مكتب الطاقة» الذي أنشأته هيلاري كلينتون في الخارجية الأميركية، ولفته يومها إلمام الضيف اللبناني بملف الطاقة ورؤيته الاستراتيجية له. سيروي هوكشتين القصة نفسها في أكثر من لقاء مع أكثر من مسؤول لبناني لاحقاً.
فاوض الأميركيون المعاقَب بتهمة الفساد على واحد من أهم الملفات الاستراتيجية والمالية في لبنان
بهذا المعنى، بدا أن الأميركيين، خصوصاً هوكشتين، هم من أرادوه مفاوضاً لإلمامه بتفاصيل الملف النفطي بعيداً عن الخطوط والمزايدات السياسية، ولامتلاكه – بحكم علاقته مع حزب الله – الغطاء اللازم. هكذا تجاوز الأميركيون العقوبات التي فرضوها هم عليه، وفاوضوا المعاقَب بتهمة الفساد على واحد من أهم الملفات الاستراتيجية والمالية في لبنان، وانفتحت له القنوات الديبلوماسية، بعدما سُدَّت أمامه كل الأبواب بإحكام منذ 17 تشرين 2019: التقى هوكشتين، وتواصل مع المسؤولين الفرنسيين من الإليزيه إلى الـ«كي دورسيه» مروراً بـ«توتال»، وزار القطريين والروس والأوروبيين.
من سبقوا هوكشتين من الوسطاء الأميركيين قاربوا ملف الترسيم من ناحية كونه نزاعاً حدودياً. فريدريك هوف اعتقد بأن خطاً وسطاً بين الـ 1 والـ 23 كفيل بأن يسيل لعاب اللبنانيين، وهو بالفعل أساله، لولا أن باسيل وحده من لم يوافق عليه.
رغم انحيازه «الطبيعي» للجانب الإسرائيلي، «ميزة» هوكشتين عمن سبقوه من الوسطاء في ملف الترسيم أنه خبير في النفط والغاز ويشغل منصب مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة. وهو أراد مقاربة الملف من ضمن استراتيجية أمن الطاقة في العالم، لا مجرد حل نزاع حدودي ورسم خط فاصل. في لقائه مع باسيل، أثار اهتمامه ما قاله الأخير: «يهمنا ما تحت الزيح أكثر مما يهمنا الزيح نفسه».
ما يجعل من التفاهم على «الزيح» 23 وما تحته إنجازاً، ليس فقط في رسم الخط على الورق، بل في أن لبنان جاهز لبدء التنقيب فوراً، بعدما أدّى «كل فروضه» منذ عام 2010، وهي الفترة التي تعاقب خلالها وزراء التيار الوطني الحر على وزارة الطاقة: أقر قانون الموارد البترولية في المياه البحرية اللبنانية، وأصدر 25 مرسوماً تعنى بالقواعد والأنظمة التي ترعى الأنشطة البترولية، وعيّن هيئة إدارة قطاع البترول، وأنجز المسوحات الجيوفيزيائية الثنائية والثلاثية الأبعاد وتحليلها، وأسّس غرفة المعلومات في وزارة الطاقة، وأطلق دورة التراخيص الأولى التي اجتذبت 54 شركة عالمية.
عملياً، كان لبنان جاهزاً للتنقيب منذ عام 2012، لولا أن «قوةً ما» منعت لأربع سنوات إنجاز مرسومي البلوكات ودفتر الشروط. منذاك، نبّه باسيل في مؤتمر صحافي في 4 أيلول 2013 من وجود «إرادة إسرائيلية وإقليمية لمنع لبنان من استخراج النفط، ويمكن أن نُوقف هذا الموضوع بإقرار مرسومي البلوكات ودفتر الشروط»، منبّهاً إلى أن تأخير إقرار المرسومين «يؤدي إلى تردد لدى بعض الشركات ويعطي أسبقية لإسرائيل»… وهو ما حدث فعلاً. بعدما كانت أكثر من 50 شركة عالمية مهتمة بالتنقيب في لبنان قبل سبع سنوات، مقابل شركة إسرائيلية واحدة في إسرائيل، انقلبت الأمور تماماً وبات العكس صحيحاً.
لذلك، في مفاوضات الشهور الأربعة الأخيرة، بعد عودة الملف إلى رئيس الجمهورية، كان التفاوض اللبناني يركز على شقين: الأول يتعلق برسم الخطوط، والثاني، الأهم والأكثر تعقيداً، يتعلق بأن ينص أي تفاهم على حق لبنان في بدء التنقيب فوراً، خصوصاً أن سنوات الحصار الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن السياسة الأميركية تتحكّم بكل شركات النفط، وأن هذه جميعها تلتزم القرارات الأميركية. إعلان «توتال» اكتشاف كميات تجارية في البلوك رقم 4 ثم تراجعها عن هذا الكشف، مثال على السطوة الأميركية. مثال آخر على هذه السطوة، هو رفض الجانب الأميركي أي إشارة إلى فرنسا، ولو حتى بكلمة شكر، في نص الاتفاقية. بعيداً عن كل ما ذُكر عن عقبات اعترضت الاتفاق، كان الأسبوعان الأخيران يدوران حول نقطة أساسية: التنقيب في لبنان فوراً… وهو ما نجح لبنان في انتزاعه.