يدرك رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، انّ المعارضة انتظرت بفارغ الصبر انتهاء عهد ميشال عون، وكان متأكّداً من انّها كانت تترقب بالايام والساعات نهاية ولايته، إلّا أنّه وفي ليلة المغادرة من قصر بعبدا، بقي يراهن على ثبات «حزب الله» إلى جانبه فنام «مطمئناً»!
إستيقظ باسيل في اليوم التالي غير مصدّق ما خلصت اليه استنتاجاته في الصباح الباكر، وهو الذي لا تغمض عيناه اكثر من ساعتين في الـ 24 ساعة. ففي الحسبة السياسية فطن أنّه لن يستطيع بعد اليوم ان يبقى «مطمئناً» الى العلاقة بينه وبين حليفه الأول، وهو يدرك بالطبع حجم خصمه ويقرّ ضمنياً صعوبة خيار المواجهة بينه وبين «الحزب»، الذي لم يعد فقط لاعباً داخلياً بل اقليمياً. إلّا انّ رئيس التيار يدرك في الوقت نفسه انّ اسم جبران باسيل هو ايضاً رقم صعب ومزعج ومعطّل وفاعل، تضجّ به الألسنة المبخّرة والمخرّبة في آن، واسمه تتسابق عليه كافة الوسائل الاعلامية وتضج بأخباره وتعترف بأنّه يشكّل مادة دسمة لانتشارها ورئيس كتلة مسيحية كبيرة.. ولذا، فالحزب يدرك قيمة دوره في تحرير جلسة الانتخابات الرئاسية.
إلّا انّ ادراك باسيل لهذه الوقائع لم يمنعه من إعادة النظر بـ«تقريش» العلاقة بينه وبين السيد حسن نصرالله تحديداً، هو الذي كان مطمئناً صابراً راضياً الى تلك العلاقة، بعدما طمأنه السيد حسن في الجلسة الشهيرة التي دامت قرابة الـ 7 ساعات قبيل الانتخابات، بأنّ اتفاقية مار مخايل ثابتة. وكم اغتبط باسيل من جرعة الدعم التي تلقّاها من السيّد، عندما أشاد الأخير في أهم اطلالاته بوطنية ووفاء رئيس «التيار الوطني الحر»، وذلك بعد صدور العقوبات على باسيل، فأعلمَ القاصي والداني بأنّ جبران الذي يتعرّض للاغتيال الإعلامي سيبقى الحليف الصديق والوطني، والذي سيقدّر له الحزب هذا الموقف! إلّا انّ الحقيقة ليست في ما يقوله الإنسان علناً وفق جبران النبي «بل بعكس ما يقوله، فإذا اردت ان تعرفه لا تصغي إلى ما يقوله بل اصغِ الى ما لا يقوله». هذه هي قناعة «الباسيليين» في المرحلة المستجدة. إذ يرون انّه وبالرغم من الاعلان الصريح والمباشر لدعم الحزب لباسيل، فهم يشكّكون في نوايا «حزب الله» بالنسبة لرئيسهم. لذا يرون اليوم انّه يعدّ للعشرة قبل الانفجار الكبير…
ويجزمون انّ باسيل وخلال قيلولته الليلية، لن يصدّق حصيلة حساباته. إذ سيتضح له انّ السيد تراجع عن وعوده، كما انّ باسيل وبطبعه لن يستطيع تقبّل تغاضي «حزب الله» عن التضحيات التي قدّمها للحزب، وأدّت إلى تلقّيه رزمة عقوبات دولية تحتاج حقيقة إلى اكثر من فريق قطري لإزالتها! وذلك كله بفضل خياره التحالف مع «حزب الله». كما انّ باسيل وبطبعه لن يستوعب انّ «حزب الله» تغافل عن رفضه العروض الاميركية (ولو نفت الإدارة الاخيرة للأمر) مقابل تخلّيه عن حلفه مع الحزب واعلان الأمر جهارة…
لن يستوعب باسيل انّه لم يوفّق في إقناع «السيد نصرالله» بعدم وجوب وجواز السير بترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، بخاصة انّه المعروف بحنكته وبميزةِ إقناع محاوريه، وببراعة التأثير في الآخرين خلال مجالستهم…
وسأل باسيل «السيد»، «ماذا قدّم فرنجية للمقاومة وماذا قدّمت انا للمقاومة؟ ما هي حيثية فرنجية النيابية والشعبية مقارنة مع حيثيتي الشعبية والوطنية والمسيحية؟». هذه هي الاسئلة المفترضة التي وجّهها باسيل إلى «السيد» وفق زواره. فوفق حساب باسيل، فرنجية، وإن كان وفياً للمقاومة إنما متفرجاً، إلاّ انّ باسيل كان وفياً متلقّياً عن الحزب سهام الداخل والخارج على صدره قبل وخلال وما بعد بعد تشرين…
ولأجل ما ورد، تأمّل باسيل ان يقدّر الحزب حجم هذه التضحيات، إلا انّ الاخير بدا كأنّه تغاضى عنها بصمت لصالح حساباته الاستراتيجية الكبرى، أي «سلاح المقاومة».
الحرب الصامتة
في الحقيقة، لم يكن تصريح باسيل إلى الـ FRANCE 24 الذي تحدث فيه عن سلاح المقاومة ليخدمه مع الحزب، بخاصة بعد عدم اعتباره سلاح الحزب اولوية بالنسبة اليه «بل أنّ هموم الناس هي الأولوية»، وقد يكون هذا الكلام هو السبب المباشر الذي أغضب الحزب، فأعلن الحرب العلنية بينه وبين باسيل، بعدما كانت خفية، إذ لم يعد «مطمئناً»، مما زاد من نسبة التوتر بين الطرفين… انما في حسابات باسيل لا علاقة لتصريحه من فرنسا بالتحول النوعي للعلاقة بين الطرفين، بل يرى أنّ الحزب كان قد حسم خياره مسبقاً عندما وافق على استمرار حكومة ميقاتي بتصريف الاعمال، في وقت كان الحزب يؤكّد لباسيل في تلك المرحلة، ان ميقاتي سيشكّل حكماً حكومة جديدة وليس بخاطره بل «مجبر أخاك لا بطل»، موحياً من خلال هذا التأكيد عن ضمانة منحها له الحزب، وبأنّ الرئيس عون لن يغادر قصر بعبدا قبل قيام الحكومة الجديدة «ولو بدّها تقوم القيامة».
في الوقائع
سارع باسيل ليلة الخميس، أي ليلة دعوة ميقاتي الى عقد جلسة لمجلس الوزراء، بالإجابة على رسالة «حزب الله» الثانية، القاسية والمباشرة، والتي خلصت إلى وجوب انعقاد جلسة لمجلس الوزراء، فلم يتحمّل كبرياؤه الامر، وقرّر الردّ بهدف مباشر وجّهه في مرمى «مشغّلي» ميقاتي، وسارع للمّ شمله وصاغ بياناً مشتركاً بالتنسيق مع كافة الوزراء الموقعّين عليه، وبعد موافقتهم بالإجماع خرج البيان من المكاتب الإعلامية المتنقلة للتيار.
العارفون عن اسباب انتقال الحرب الصامتة إلى علنية بين باسيل والحزب، يرون بأنّ باسيل ربما تسرّع في إصدار البيان الليلي، مع انّه قلّما يُخطئ في التكتيك! إذ لم يكن عليه اصدار بيان تحدٍ ليلي، أتاح الفرصة والوقت للذين ينتظرون على ضفة النهر، التحرّك ليلاً والانتقال من الحرب البطيئة إلى المواجهة السريعة، معتمدين الخطة «ب»، وهي ما زالت غير واضحة تتأرجح حقيقتها بين ضغط وتهديد لمصالح خاصة للوزير الملك. ولذلك، يرى المقرّبون من باسيل، انّه كان عليه مفاجأة ميقاتي ومَن وراءه صباح الجلسة بعدم اكتمال النصاب… إذ كان الأجدى الاتفاق سراً مع الوزراء الذين قرّروا عدم المشاركة من دون المجاهرة ببيان اعلامي اعتبره «الحزب» موجّهاً ضده شخصياً، وفطن انّه إجابة عن رسائله المتتالية إلى باسيل، وليس جواباً عن اصرار ميقاتي، الذي اعلنها باسيل أمس صراحة، حين اعتبر انّ دور ميقاتي محدود في هذه اللعبة، ويقتصر فيها على ساعي بريد، تاريخ مهامه محدود وتنتهي صلاحيته «باتصال مع الكونغرس الاميركي» وفق تعبير باسيل.
مفاجأة النهار
في تلك الليلة، شفي باسيل غليله واستمتع بنشوة النصر التي أحدثتها ضربته المباشرة ليلاً، بعدما أصابت إجابته الهدف، فسجّل نقطة مزدوجة في مرمى ميقاتي ومشغلّيه، فاعتبر انّه تمكّن من تعطيل النصاب، وحان الوقت ليردّ على الحزب الذي نكث في وعود متتالية، بدءاً من تشكيل حكومة جديدة وصولاً إلى عقد جلسة حكومية بغياب رئيس جمهورية، ليؤكّد أنّه ما زال رقماً صعباً بالرغم من انتهاء ولاية العهد، وأنّه ما زال ممسكاً بالثلث الضامن.
نام باسيل تلك الليلة مطمئناً، الّا انّه استيقظ صباح الجلسة على مفاجأة النهار وعلى «مشيئة الله» و«حزبه». فالثلث المعطّل أصبح في جعبة الحزب، الذي يقرأه المقرّبون من رئيس التيار خيانة مزدوجة من قِبل الحلفاء وليس ضعفاً او تراجعاً من باسيل. وعليه، يتضح لماذا آثر الحزب الإبقاء على الحكومة الحالية. فهو لم يعد يتحمّل «تمنين» باسيل عند كل مفصل ومحطة. كما انّ الحزب لم يعد «مطمئناً» إلى اولويات باسيل التي اعلن عنها من فرنسا.
بالمقابل، يبدو انّ الشعور متبادل بالنسبة إلى باسيل. فالأخير لم يعد مطمئناً إلى تحالف صوري دفع ثمنه اكثر مما استفاد منه وما زال، وهذا ما اعلنه امس في مؤتمره ضمناً، محذّراً الحزب من انّ «كرامة التيار اهم من اي تفاهم». بالإضافة إلى انّ باسيل لم يعد مطمئناً إلى وعود فرنجية وصدق نواياه في حال وصوله إلى سدّة الرئاسة، إذ يرى انّه فشل في «الاختبار المسيحي الاول»، في وقت يبدو رئيس التيار اكثر اطمئناناً إلى عدوّه اللدود أي «القوات اللبنانية»، التي آثرت مع البطريركية المارونية التمسك بالحقوق الرئاسية المارونية ولو على حساب تبنّي «القوات» لموقف خصمها اللدود.
في الموازاة، يترقّب المشهد اللبناني احتمال انتقال باسيل إلى جبهة المعارضة، في وقت تسرّبت معلومات تفيد عن عودة اللقاءات بين النائبين ملحم الرياشي وابراهيم كنعان. فهل يكون الطبق رئاسياً؟
الإعلان القاسي
كذلك، واكب مناصرو «التيار الوطني الحر» بشغف ردّ باسيل المباشر أمس، ليشفي غليلهم. إذ بدا اكثر من اي وقت مضى متحمساً للردّ بالمباشر على «مشغّلي ميقاتي»، فلم يستطع الانتظار إلى يوم الاحد، بخاصة بعد الاجتماع الليلي الذي عقده مع الوزراء الثمانية عبر ZOOM اول من أمس، فقرّر التصعيد والمواجهة والإجابة عن حزمة رسائل متتالية أثقلت كاهله، في وقت تفيد المعلومات، انّ التراكمات بينه وبين الحزب وصلت إلى حدّها، وستدفعه إلى تجميع اوراق كبيرة ومهمّة للمواجهة، هي اوراق دستورية وقانونية. إذ سيتسلّح باسيل مجدداً بقوة وحصرية التواقيع، وأبرزها توقيع رئيس الجمهورية على المراسيم الحكومية، والتي نصت على توقيع مجلس الوزراء مجتمعاً، اي الـ 24 وزيراً، ولم تنص على توقيع رئاسة الحكومة، على كافة المراسيم. لذا، تُعتبر الجلسة وقراراتها ومراسيمها باطلة وغير دستورية …ومن هنا سينطلق… ومن هنا يبدو انّ «مشيئة الله» و«حزبه» لم تسعفها شفاعة «مار مخائيل».