قرار عدم التمديد لرئيس الأركان في الجيش اللبناني يعني أن رئيس التيار الوطني الحر ماضٍ في معركته السياسية، مهما كان حجم شظاياها، ومستمر في قلب موازين الحكومة في وجه رئيسها وحلفائه وخصومه
لا يبدو أن رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في صدد التراجع في المعركة السياسية «الكبرى» التي يخوضها في وجه الرئيس نجيب ميقاتي، وفي وجه «الترويكا» التي حكمت سابقاً، ويلوح في الأفق أنها مستعدة للعودة إلى الحكم مرة أخرى، ومن وقف وراء انعقاد جلسة حكومة تصريف الأعمال في الخامس من الشهر الجاري. إذ إن أي خطوة تراجعية تعني انكساره، وأن الثمن من الآن وصاعداً سيكون كبيراً في ملفات أكثر أهمية وحساسية.
حين قرر باسيل خوض معركة الحكومة إلى النفس الأخير، كان يتقصّد، ببساطة، أن لا تدوير زوايا في ما يتعلق بالمراسيم ولا بتواقيع الوزراء جميعهم ولا بأي أمر يثبّت شرعية حكومة تصريف الأعمال، بمعزل عن توافق كل مكوّناتها والاجتماع عند الضرورة. حتى المزايدة عليه في موضوع يتعلق بالجيش وحقوق العسكريين والترقيات والتمديد لضباط المجلس العسكري لم يثنه عن قرار يعتبره أساسياً في معركته في وجه الحلفاء والخصوم على السواء.
من هنا، لا يمكن وضع عدم توقيع وزير الدفاع حتى مساء أمس على التمديد لرئيس الأركان اللواء أمين أبو عرم، الذي تقيم له قيادة الجيش اليوم احتفالاً وداعياً تكريمياً، وهو القرار «السياسي» الأهم في مجمل ما حصل في الساعات الأخيرة، إلا من خلال خط بياني وضعه باسيل في المرحلة التي كان حلفاؤه وخصومه يعتقدون أنه سيتراجع فيها عن الحد الذي وضعه لنفسه وللتيار منذ ما قبل انتهاء عهد الرئيس العماد ميشال عون.
هناك أمران منفصلان: موقف التيار من التمديد بالمطلق وينسحب على كافة المواقع العسكرية وهو الأمر الذي خاض من أجله معركة ضد قائد الجيش السابق جان قهوجي ومدير المخابرات السابق طوني منصور، رغم أن وزيرة الدفاع زينة عكر خرقته بالتمديد ستة أشهر لعضو المجلس العسكري اللواء الياس شامية، ومن خارج الجيش تأييد التمديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. إلا أن مفعول القرار سيفتح مجالاً للاجتهادات الكثيرة حوله في السياسة والعسكر. فعدم التمديد لرئيس الأركان والمفتش العام يعني أن قائد الجيش جوزف عون سيصبح آمراً ناهياً في المجلس العسكري وهو قد يكون في وارد إعطاء إشارة إيجابية لقائد الجيش في خضم هجومه عليه. فأي مصلحة لباسيل في مثل هذا القرار، في ظل المعركة التي يخوضها باسيل علناً ضده؟
الواقع مغاير بعض الشيء، فباسيل يخوض معركة سياسية واسعة، يأتي ضمنها ملف التمديد لرئيس الأركان، لكنه هنا يميز بذلك بين العسكر كقيادة والرئاسة، لأن مثل هذه الحظوة التي سيمتلكها قائد الجيش لن تكون استثنائية. فصلاحيات المجلس العسكري لن تنتقل إلى شخص قائد الجيش، بالتالي لن يقوم بأي أمر خارج الإطار المتعارف عليه ضمن المجلس العسكري. لكن المفارقة أن عون يستفيد من خطوة وزير الدفاع رغم أنه هو من رفع طلب التمديد، لأن قائد الجيش أساساً غير محبذ للتمديد، وهو برفعه الكتاب مستنداً إلى المادة 55 قانون الدفاع الوطني، عالماً بموقف باسيل، اعتمد أمام القوى السياسية المؤيدة للتمديد طريقة «اللهم إني بلغت»، ما يعفيه من أي رد فعل سلبي ضده. إلا أن النقطة الثانية التي قد ترتد على باسيل من القاعدة العسكرية، هي أنه مع تحييده قيادة الجيش، أثار بلبلة بين العسكريين في شأن الترقيات والمساعدات، وخلق شرخاً بين وزير الدفاع والجيش الذي كان عادة يضع اللوم على الرئيس نبيه بري ووزير المال لعدم توقيعه الترقيات.
أما في السياسة فشأن آخر، لأن باسيل إذا استكمل معركته أصاب ثلاثة أطراف بالمباشر أولاً الرئيس نجيب ميقاتي، وثانياً رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وثالثاً الطرف الذي يعتقد أنه حشر باسيل في زاوية رئاسية قد يستفيد منها لدفعه إلى تقديم تنازلات. في المحصلة القرار العسكري قرار سياسي أولاً وآخراً، وعدم التمديد «السياسي» لرئيس الأركان بما يمثل طائفياً وسياسياً، يعني أن هذه الخطوة يمكن أن تكون مؤشراً إلى خطوات أخرى تتعلق بأسلاك أمنية على طريق أن تواجه موضوع التمديد لضباطها وقادتها، أو مؤسسات أخرى ستكون إذا ظل الفراغ الرئاسي قائماً محكاً لتشابك سياسي بعناوين متعددة.
لن تكون جلسة مجلس الوزراء خاتمة المنازلة بين باسيل وحلفائه وخصومه، لا بل إنها مقدمة لمزيد من الخطوات التي يريد باسيل أن يحاصر الآخرين بها. ثمة اعتقاد أن معركته ضد ميقاتي من ضمن إطار عام، لكن الواقع أنه يخوض معركة رئاسة الجمهورية والحكومة معاً، لأن ميقاتي يتصرف وكأن الحكومة الحالية رغم أنها حكومة تصريف أعمال، جواز مروره إلى حكومة العهد الجديد. وما يقوم به عبارة عن تقديم أوراق اعتماد محلية وخارجية بأنه الأصلح لمرحلة جديدة يكون فيها الرئيس الجديد توافقياً، من دون خطة عمل سياسية أو اقتصادية، ما يتيح لميقاتي أن يشكل حكومة تكون فعلياً حكومته لا حكومة الآخرين برئاسته. هذا تماماً ما يتحضر له باسيل، لأن بقدر ما تدور التسويات الخارجية حول رئاسة الجمهورية والحكومة، يتحرك لمواجهة الأمرين. حينها تصبح الترقيات والتمديد لضباط تفاصيل في معركته السياسية، ولن يعدل في المبدأ الذي اعتمده لمواجهة الحصار الذي يفرض عليه بحصار مضاد.