ما صدّقتُ أن «المبادلة» التي اصطنعها الرئيس الفرنسي ماكرون ستنجح: في مقابل تعويم «حزب الله» والرئيس عون، تتشكل حكومة إنقاذ مصغَّرة من اختصاصيين مستقلين ومنصرفين لتحقيق إنجازاتٍ شبه مستحيلة: إيقاف الانهيار الاقتصادي بالإصلاحات الجذرية من جهة، والحصول على المساعدات الدولية من جهة أخرى – والإقبال على إعمار المرفأ وبيروت – وإجراء انتخاباتٍ نيابية مبكرة.
إنّ الطريف أنّ كثيرين من الأصدقاء والخبراء نجحوا في إخماد شكوكي، باعتبار أنّ الوضع يائس، ولا مخرج لدى الحزب ولدى الرئيس إلاّ قبول المبادرة الفرنسية رغم مرارتها. ثم أين هي المرارة ولماذا؟ فالثنائي الشيعي والرئيس مفضوحون بالفشل، وحكومة الإنقاذ لن تكون مهتمة بكشف الفضائح، بقدر ما ستكون مهتمة بالفعل المستقبلي. وبالفعل فإنّ جبران باسيل في مؤتمره الصحافي بدا مسالماً، بل مناقضاً لكل تصريحاته السابقة حتى ما تعلق منها بـ«حزب الله»، كأنما يئس من دعمه له في الانتخابات الرئيسية المقبلة. فهو مع القرار الدولي رقم 1701 الذي لا يقبل سلاحاً جنوب الليطاني إلاّ سلاح الجيش والقوات الدولية. ويرغب في ترسيم الحدود مع إسرائيل، وهو مع المداورة في كل الوزارات حتى تلك التي كان مسيطراً عليها طوال السنوات الماضية (الطاقة والخارجية والعدل مثلاً). بل هو أيضاً ضد احتكار الشيعة لوزارة المالية؛ لأنّ في ذلك دخولاً في المثالثة التي يرفضها، لإصراره على «الطائف» والدستور! وقبل ذلك كان زعيم الحزب المعصوم لا يرى مانعاً في المبادرة الفرنسية واشتراطاتها. بل إنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري كان الوسيط الرئيسي في تذليل كل العقبات أمام الرئيس المكلَّف. وهذا فضلاً عن الثناء العطِر على مصطفى أديب من جانب الثنائي الشيعي ومن جانب عون وباسيل. وهكذا توارى للوهلة الأولى كلام الرئيس عن الحكومة الموسعة، وكلام الرئيس والآخرين عن أنّ الوزراء ينبغي أن يكونوا اختصاصيين لكنهم مسيَّسون!
وضمَّ الرئيس المكلّف أوراقه إلى صدره بشدة. وبدا أنه لا يتواصل إلا مع الفرنسيين، بحيث انزعج باسيل لعدم التشاور معه، وأقبل «إعلام المقاومة» على اتهام ميقاتي والسنيورة وسعد الحريري بأنهم هم الذين يشكّلون الحكومة! وعلى أي حال فإنّ الرئيس المكلف زار القصر مرتين من دون أن يذكر أسماء للرئيس، بل ثابر الرجل على عرض المواصفات والسياقات التي يراعيها في تشكيل حكومة الإنقاذ.
ثم حدث أمران اثنان غيَّرا المشهد لدى الثنائي الشيعي بالذات: اتجاه إيران للتصعيد في كل مكان، والعقوبات الأميركية على الوزير السابق علي حسن خليل. تثير إيران القلاقل في كل مناطق نفوذها العربية ومنها لبنان، استعداداً لنتائج الانتخابات الأميركية. إذ الكل يريد خطب ود أميركا وليس فرنسا المنهمكة في نزاعاتٍ مع تركيا ومع ثوار الساحل وإرهابييه… ومع أميركا. أما الرئيس بري فوقعت عليه العقوبات وقع الصاعقة. ولذلك انضم إلى الحزب في التصعيد، وبدت طريقة انضمامه غريبة. فطوال الشهور الماضية ظل يدعو للدولة المدنية، ولانتخابات بدائرة واحدة محررة من القيد الطائفي. ويشاركه المفتي الشيعي الكاره للطائفية والمحب المفاجئ للدولة المدنية! فجأة يرى بري أنّ وزارة المال هي حصة شيعية مقررة، بل إنّ كل الوزراء الشيعة في الحكومة ينبغي أن يسميهم الثنائي الشيعي. لقد تبخرت كل أطروحات الدولة المدنية، وصارت وزارة المالية هي أهم الهموم. فهل كان ذلك للعقاب الذي نزل به من الأميركان؟ أم لأنّ الحزب يريد التصعيد؟ لا بأس بالإيهام بالتنازل بالموافقة على التكليف، أما التأليف فليس للثنائي مصلحة فيه إلا بعد أن تنجلي نتائج الانتخابات الأميركية، وإلى أين تذهب إيران، وما حظوظ الصفقة مع الرئيس الأميركي الجديد؟
والرئيس عون كما طوال السنوات الماضية، ثابت على الولاء لـ«حزب الله» مهما كلف الأمر. لذلك وأمام إصرار الرئيس المكلف على عدم التنازل عن شيء، عاد لمخالفة الدستور، ودعوة الكتل النيابية للتشاور في الشروط التي يفرضها الفرنسيون والرئيس المكلف. وكان سعد الحريري قد زار بري وشهد غضبه وخيبة أمله في ما يجري. ثم جاءت مشاورات الرئيس التي لم يستجب لها جنبلاط وجعجع، بينما «ضحّى» كلٌّ من ميقاتي والحريري كعادتهما فجلسا إلى الرئيس ليصرّا على الشروط التي وضعها الرئيس الفرنسي، مع الحرص على عدم إغضاب الرئيس أو إزعاج الثنائي!
مساء الثلاثاء في 15 سبتمبر (أيلول) الحالي وعندما كانت الأنظار موجّهة إلى البيت الأبيض بسبب معاهدتي السلام الإماراتية والبحرينية مع إسرائيل، كان الفرنسيون غاضبين، وكان الرئيس عون يرى أنه ما باليد حيلة إن لم تجرِ الاستجابة للمطلب الشيعي، بينما عاد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للتهديد والوعيد كأنما هو حريصٌ على المبادرة الفرنسية أكثر من الرئيس ماكرون نفسه!
الشيعة السياسية في لبنان، التي تتحكم في المصائر من نحو العقدين، تفضّل تمادي الانهيار، على أن يجري الاستخفاف بـ«حقوقها المقدسة» في المالية، وفي سائر الأمور. ورئيس الجمهورية مسرور لاستتاره بالتشيع السياسي. والرئيس المكلف لا يستطيع التنازل أو تصبح تشكيلته غير ذات موضوع ولا صدقية. ولأنه بالقوة الفرنسية ليس مقطوعاً من شجرة، فإنه مقبلٌ على الاعتذار عن عدم التشكيل! هل يخشى الثنائي الشيعي فقد الدعم الفرنسي، والانهيار الكامل؟ ما كان الزعيم المعصوم ولا مرة من المرات ليتنازل عن أي شيء مهما صغُر للداخل اللبناني. ولذلك لا يبدو أنه سيقبل تنازلات على مشارف الانتخابات الأميركية المصيرية. مرة يكون هذا الفريق أكبر من لبنان ومن المنطقة، ومرة يكون بحجم حصاة في صحراء، وفي الحالتين يبقى لبنان رهينة مزاجه!
أما اللبنانيون المذعورون من استمرار الحرائق والانهيارات في المدينة، والجرائم الأمنية في كل مكان، وتفاقم وباء «كورونا»؛ فما عادت عندهم حيلة غير شتم الحزب ورعاته، والنظام وزبانيته!
هل يحدث الارتطام الكبير؟ إن لم يتنازل الطرف الشيعي، فسيعتذر الرئيس المكلف، وسيبدو أثر ذلك فوراً في سعر الدولار، وفي المزيد من الاضطراب الأمني والتردي المعيشي! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!