لم يستطع المسيحيون في لبنان، ولن يستطيعوا يوماً، أن يتوافقوا على شخص رئيس الجمهورية، كما تتوافق القوتان الشيعيتان مثلاً على اختيار رئيس المجلس النيابي. وعلى رغم التجارب المريرة التي خاضتها هذه القوى، طوال عقود، فإنّها لم تتعلّم أي درس. ولذلك، هي تتخبّط عاجزة في استحقاق الرئاسة.
يوحي التقاطع بين غالبية الأحزاب المسيحية على تسمية الوزير السابق جهاد أزعور، بوجود تفاهم سياسي معيّن في ما بينها، حول المرحلة المقبلة. ولكن، في الواقع، ليس هناك أي تفاهم سياسي، لهذا التقاطع، والهدف الوحيد الواضح هو منع رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية من الوصول إلى بعبدا. وسوى ذلك، الكل في خلاف مع الكل.
في المعسكر المسيحي الداعم لترشيح أزعور، هناك حلفاء- أعداء، لا أحد يعرف متى ينقلب بعضهم على الآخرين. وهذا الانقلاب قد يقع في شكل مفاجئ، في أوج المعركة الانتخابية، ويشكّل ضربة غير محسوبة لأزعور، علماً أنّ هذه القوى المسيحية تدرك جيداً أنّ أزعور لن يستطيع الوصول إلى بعبدا مهما بذل من جهود، وأنّ ترشيحه هو مناورة سياسية لا أكثر.
فرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل يمتلك خبرة كافية في طريقة تصرّف «حزب الله» في الملفات الأساسية، ومنها رئاسة الجمهورية. وهو يعرف أنّ من المستحيل أن يتراجع «الحزب» عن موقفه. وتالياً، هو يعرف أنّ مبادرته إلى الحشد لمصلحة أزعور لن تتكفّل في أي حال بإيصاله إلى الرئاسة.
وفي العمق، ليس سراً أنّ باسيل لا يرغب في ترشيح أحد لرئاسة الجمهورية، حتى من داخل «التيار»، بل يريد أن يكون هو خَلَف الرئيس ميشال عون، ويرغب في قطف ثمار المكاسب التي جرى التأسيس لها في العهد السابق، ولاسيما في مجالات الكهرباء والنفط والغاز. كما أنّ الجميع يتهافتون ليكونوا حاضرين في قلب عملية النهوض من الانهيار الحالي، وهي منتظرة في مدى السنوات الست المقبلة.
ومن المثير أن تكون قوى 14 آذار المسيحية الداعمة لأزعور مدركة حقيقة المناورات التي يمارسها باسيل، لكنها ماضية في الشراكة غير المباشرة معه. فما يريده الدكتور سمير جعجع من أزعور، إذا أصبح رئيساً للجمهورية- افتراضاً-، مغاير أو مناقض لما يريده باسيل.
اليوم، هناك تقاطع موضوعي بين القطبين المسيحيين سببه الخوف من وصول فرنجية إلى بعبدا، لا أكثر، وأما الباقي فيختلفان عليه. وهذا التقاطع يشكّل تكراراً للتقاطع الذي جرى بين القوتين الحزبيتين المسيحيتين في العام 2016، عندما أدّى الخوف من وصول فرنجية أيضاً إلى إقرار تفاهم معراب.
فقد بدا التفاهم آنذاك بين عون وجعجع اضطرارياً وعلى مضض. ومن خلاله، مارس عون مناورة ذكية، أدّت إلى قبول جعجع بوصوله إلى بعبدا، مع وعد بالحصول على مكاسب خلال العهد وربما بعده.
طبعاً، المناورة دامت حتى نهاية عملية الاقتراع لعون في جلسة الانتخاب. بعد ذلك، انتهى زمن الخمر وجاء زمن الأمر. فكشف عون عن موقفه الحقيقي، وهو أنّه أولاً وأخيراً حليف «الحزب صيد»، وانطلاقاً من هذه الثابتة، ومن مصالحه، يمكن أن «يدوزن» علاقاته مع «القوات». وهذا أمر طبيعي في اللعبة السياسية، حيث الكلمة للمصالح لا التوافقات.
لقد تبيّن للجميع أنّ عون لا يمكن أن يرتكب خطأ الانقلاب على الطرف الأقوى في لبنان، وأن يتنصّل من الطرف الذي دعمه حتى وصل إلى الرئاسة. وعون لم يمارس «ترف» التناغم مع القوى المسيحية الأخرى في أي يوم، إلّا عندما اقتضت مصلحته ذلك. فغالباً ما اكتشف أنّ هذا التناغم لا يدرّ عليه الأرباح في السياسة بل يكبّده الخسائر.
في العام 2005، عندما اختار عون أن يغادر سرب 14 آذار ويبرم «تفاهم مار مخايل» مع «حزب الله»، كان يطلق العنان للبراغماتية على مداها. فهو استنتج أنّ الذهاب إلى «الحزب» مباشرة يبقى له الأجدى نفعاً، بدل مصارعة طواحين الهواء. وقد تعلّم أنّ الخطأ الأكبر الذي يرتكبه رئيس للجمهورية في لبنان، هو أن ينقلب على الجهة التي أوصلته إلى الرئاسة.
وأما جعجع، فكان حائراً في العام 2016: من الأنسب له أو الأقل خطراً عليه في موقع الرئاسة: عون أم فرنجية، ما دام الرجلان محسوبين سياسياً على محور واحد هو طهران- دمشق؟ وبعد تفكير ومشاورات، خرج بالنظرية القائلة إنّ فرنجية هو 8 آذار «أصلي»، فيما عون «تقليد»، وقد يكون أقل ارتباطاً بـ»حزب الله» ودمشق.
خلال العهد، تعرّض جعجع لمضايقة قاسية من عون وباسيل. ومن مفارقات الأقدار أنّه وجد نفسه مضطراً إلى الانفتاح على فرنجية، فأنجز معه «مصافحة» أزالت العداء الشخصي، ولو لم يحصل تقارب سياسي بينهما.
اليوم مجدداً، باسيل يغري جعجع بالوقوف في وجه فرنجية. وقد وجد «الحكيم» نفسه مضطراً إلى عقد شراكة غير مباشرة معه، لا باتفاق معراب، بل بالواسطة من خلال أزعور. وفي الحقيقة، ليست أمام جعجع اليوم خيارات أفضل، كما كان أمره في العام 2016. ففي كل مرة يكون مكتوباً عليه أن يختار لا بين الجيد والسيئ بل بين السيئ والأسوأ.
ولكن، ثمة من يقول إنّ باسيل قد يتصرّف اليوم كما تصرّف عون قبل 7 سنوات. ويحتفظ باسيل لنفسه بلغم يمكن أن يقوم بتفجيره في أي لحظة، وبه يعيد خلط الأوراق ويربك الجميع. إنّها لعبة السياسة والمصالح دائماً.