الظروف لا تغيّر جبران باسيل. لا تعلّمه ولا تعلّم في شخصيته. هو نفسه. دائم التذاكي على اللبنانيين وفي رهانه على ذاكرة اللبنانيين الجماعية، المثقوبة، كي ينسوا ما يقوله ويعيده أو يفعله!
هكذا، بشطبة قلم، محا كل ما سبق وساقه بحق رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية. وهذه عيّنة ممّا سجّله مرصد «الاتهامات الإلغائية»: «لا يحترم الدستور ولا المؤسسات ولا الشراكة الوطنية»، «يريد أن يفرض نفسه رئيساً بمباركة خارجية وبتهديد داخلي»، «يريدون الإتيان برئيس فاسد، ورئيس حكومة فاسد وحاكم للبنك المركزي أكثر فساداً وبحمايتهم»، «رئيس جمهورية يأتي على ظهر الفوضى مثل رئيس يأتي على ظهر الدبابة الإسرائيلية». «ماذا أقول لكم إن انتخبت سليمان فرنجية؟ المركز يحتاج لهيبة وهل بإمكاني أن أعدكم بأنه سيحارب الفساد؟ سيبني دولة؟ لمّا فكّر بهيدا المستوى بدي استحي من حالي».
حينها، كان تركيز باسيل على تحقيق هدف واحد وهو إخراج فرنجية من السباق الرئاسي مهما كلّفه من تصعيد ورفع للسقوف لدرجة التهديد بنسف تفاهم مار مخايل، واللجوء إلى تكتيكات انقلابية دفعت به إلى أحضان التقاطع مع المعارضة. المهم إحالة رئيس «تيار المردة» إلى التقاعد الرئاسي المبكر.
وبالفعل، ألّب الرأي العام العوني ضدّ ترشيح فرنجية بعد «شيطنته»، والمبالغة في انتقاده، لدرجة أنّ مؤيّديه كادوا يهضمون فكرة ترشيح جهاد أزعور، وزير مالية فؤاد السنيورة، فقط لأنّ باسيل أقنعهم أنّ هذا الترشيح المبني على تقاطع لا تفاهم، يُراد منه الإطاحة بالمبادرة الفرنسية التي حملت فرنجية إلى مرتبة المرشح المقبول دولياً.
ضمن هذا المخطط حمل ورقة الأولويات الرئاسية، ليجول على القيادات والكتل النيابية ليغلّف مقاربته الرئاسية بلائحة مطوّلة من خمسين عنواناً، حول السياسة الخارجية والدفاعية، التوازن الوطني والشراكة، معالجة الإنهيار المالي والإقتصادي والإجتماعي، الإصلاح السياسي والإداري، القضاء واستقلاليته وفعاليته، الثروة الوطنية، والأمان والإستقرار والإزدهار… وتصلح لتكون برنامجاً متكاملاً لأي مرشح رئاسي يعمل على تقديم نفسه على نحو مؤسساتي، إصلاحي، إنقاذي.
فجأة قرّر جبران باسيل أن يكون «المنقذ». تحت عنوان «التضحية»، تجاوز كل ما سبق وارتكبه من انتقادات بحق فرنجية، ومن إنجازات يسعى إلى تحقيقها عبر الورقة الرئاسية، ليختصر المشهد بمعادلة واحدة: أعطوني اللامركزية الإدارية الموسّعة والصندوق الإئتماني وخذوا الرئاسة!
لا جواب شافياً يفسّر كيف يمكن تحقيق هذين المطلبين عبر تشريعهما كشرط مسبق ليضع نواب «تكتل لبنان القوي» اسم سليمان فرنجية في الصندوقة الرئاسية (بعضهم فعلها أصلاً)؟ كما أنّه لا تفسير أيضاً، كيف يمكن لهذين البندين أن يختصرا كلّ رؤية «التيار الوطني الحر» لبناء الدولة ومؤسساتها؟ كيف يمكن لهما أن يختزلا المشروع الإصلاحي؟ ماذا تعني اللامركزية إذا لم تطبق الدولة المركزية الشروط الإصلاحية لصندوق النقد الدولي؟ وها هي البلديات نموذج للفساد ولهدر المال العام لأنّها غير مضبوطة بأطر شفافة وإصلاحية.
الأهم من تلك التساؤلات، ما هو مرتبط بسلوك جبران باسيل طوال ستّ سنوات من عهد الرئيس ميشال عون وما بعد الانهيار المالي: لماذا لم يوظّف رئيس «التيار» شبكة التفاهمات التي عقدها لتأمين وصول العماد عون إلى الرئاسة لإقرار قانون اللامركزية إذا كانت خشبة الخلاص؟ هل صار بالإمكان الوثوق بأي مرشح لقيادة الورشة الإصلاحية؟ من يضمن التطبيق؟
«الحقوق» في صندوق!
والطبقة السياسية التي لا تزال «تعلك» في القوانين الإصلاحية وترفض توزيع الخسائر لسدّ الفجوة المالية، هل ستتنازل فجأة لتنشئ صندوقاً إئتمانياً «يقضي بحفظ أصول الدولة وملكيتها فيما تتم إدارتها من القطاع الخاص ما يسمح بتحسين إيرادات الدولة وردم جزء من الفجوة المالية وإعادة الأموال للمودعين»، كما وصفه باسيل؟ وكيف يمكن أن تنهي كل «معزوفة» حقوق المسيحيين بـ»صندوق»؟
ومع ذلك، دأب باسيل خلال الأيام الأخيرة في محاولة توضيح حيثيات انقلابه. طبعاً، معظم النواب والقيادات العونية الأساسية، لا يعرفون حقيقة ما يحصل بينه وبين «حزب الله» في الحوار المستجد على الخطّ. وأي من هؤلاء لا يملك جواباً حاسماً: هل فعلاً قطع الحوار شوطاً مهماً قرّر بنتيجته باسيل القفز من ضفّة شطب فرنجية إلى ضفّة تأييده بعدما اضطر إلى القبول بأهون الشرور حين لمس أنّ ترشيح قائد الجيش جوزاف عون قد يكون خيار المرحلة الجديدة بدفع من قطر؟ أم هي لعبة كسب مزيد من الوقت في مفاوضات شبه تعجيزية لا يسعى من خلالها إلّا لعبور استحقاق قيادة الجيش بشطب ترشيح جوزاف عون بعدما حوّل فرنجية من أهم المرشحين إلى مجرّد مرشح مدعوم من الثنائي الشيعي؟
المشهدية الخارجية
في الواقع، فإنّ وضع هذا الانقلاب على مقياس المشهدية الإقليمية، يزيده ضبابية خصوصاً أنّ ما يتسرّب عن مسؤولين سعوديين لا يشي بأنّ طريق سليمان فرنجية ليست كما كانت قبل فترة. إذ يُنقل عن دبلوماسيين قولهم إنّ التطوّرات أثبتت أنّ الإدارة الفرنسية لم تكن على دراية عميقة بالملف اللبناني خلافاً للرياض التي كانت تدرك مسبقاً أنّ معادلة المقايضة التي قامت عليها المبادرة الفرنسية ستصل إلى حائط مسدود. وسبق للمسؤولين السعوديين أن حذّروا الفرنسيين من هذه النهاية لكنّ هؤلاء أصرّوا على مقاربتهم، وسايرهم السعوديون لكي لا يتّهموا بالعرقلة.
يؤكد دبلوماسيون سعوديون في مجالسهم إنّ مكونات اللجنة الخماسية عادت إلى المقاربة السعودية للملف اللبناني التي تقوم أساساً على الاتفاق على مواصفات الرئيس ومن ثم البرنامج. يشيرون إلى أنّ سياسة المملكة قائمة على قاعدة التعامل من دولة إلى دولة، على أساس اتفاقيات (ثمة أكثر من 25 اتفاقية مشتركة معدّة للتوقيع)، وبرامج، وليست مرهونة بمزاجية الأفراد وتموضعاتهم السياسية. وعلى هذا الأساس، فإنّ تعامل السعودية مع لبنان سيكون محكوماً بسلوك السلطات المعنية، ووجود أشخاص من غير الخصوم، وغير منغمسين بالفساد، يسهّل العلاقة ويعالجها، وفق ما ينقل مسؤولون لبنانيون عن مسؤولين سعوديين.
في المقابل، يشيرون إلى أنّ الرياض سترحّب بأي اتفاق لبناني- لبناني ولكن قرارها بالمشاركة في المشروع الإنقاذي سيتحدّد تبعاً لسلوك السلطة اللبنانية، مع العلم أنّ المسؤولين السعوديين لا يتردّدون في الإشارة إلى أنّ المجتمع الدولي يرفض أيضاً مساعدة لبنان إذا لم يتمّ ضبط الفساد ومكافحته.
كلّ هذا يعني، أنّ ثمة تفاهماً إقليمياً (عبّر عنه بيان «الخماسية» الأخير) لكيفية مقاربة الاستحقاق اللبناني ليكون مدخلاً لعملية إنقاذ مالي لا بدّ لأي عهد أن يحتاجها لكي يطوّق الانهيار. فأين طرح باسيل من هذه التطوّرات؟