مخطئ من يظنّ أنّ رئيس «تيار المرده» سليمان فرنجية «سيبجّها» على الطريقة الزغرتاوية ليخرج من «عندياته» ويعلن انسحابه من المعركة الرئاسية من دون تنسيق مع «حزب الله». الأكيد أنّ الرجل غير مرتاح لمسار الأمور، وما يصله من أخبار، عبر الإعلام وعبر موفدين سياسيين وديبلوماسيين، لا يطمئنه لأنّ ملعقة الرئاسة باتت بعيدة، بعدما بلغت حلقه. وباتت معركته صعبة جداً إن لم نقل مستحيلة وتحتاج إلى انقلاب في المواقف الإقليمية والدولية قبل المحلية، لكي تستعيد حظوظه بعض الزخم.
ومع ذلك، لن يعتلي المنبر ليعلن انكفاءه عن الحلبة إلّا بعد التشاور مع «الحزب»، وفق توقيت له حساباته المعقّدة. و»الحزب» ليس في وارد، أقله في المرحلة الراهنة، رفع راية الاستسلام، وتقديم مرشحه على طبق التنازل المجاني. عشية إطفاء الشمعة الأولى من عمر الشغور الرئاسي، يمكن الجزم أنّ سوق التفاوض المحلي حول اسم الرئيس، قد أقفل، وانتقلت عملية البيع والشراء إلى الخارج. وفي الخارج صمت مريب.
اثنا عشر شهراً من الشغور، رسمت مشهدية متعرّجة من جولات العروض والمفاوضات العابرة للاصطفافات. استهلت بإعلان «الثنائي الشيعي» ترشيح فرنجية، وهو أمر كان متوقعاً لكن إخراجه كان سيئاً ومسيئاً للرجل.
وتكاد تنتهي باقتناع هذا الفريق، من دون إقراره بصعوبة ايصال القطب الزغرتاوي إلى القصر. وبين البداية والنهاية، رسم بيانيّ حافل بالتكتيكات والمناورات التي فرضتها حركة جبران باسيل، الذي قفز من ضفّة التهديد بتمزيق تفاهم مار مخايل بحجة رفضه ترشيح فرنجية إلى ضفّة التقاطع مع المعارضة على اسم جهاد أزعور، ليعود إلى الوسط متنقّلاً على الحبال، بين التفاوض من جديد مع «الحزب» تحت عنوان اللامركزية الإدارية والصندوق الإئتماني، والإمساك بخيط التقاطع مع المعارضة، تاركاً لنفسه هامش التفاوض أيضاً مع القطريين على اسم قائد الجيش جوزاف عون.
يعتقد باسيل أنّ استراتيجيته هذه، تسمح له أن يخرج من معركة الرئاسة، ليس بأقل الخسائر وإنّما بأكبر قدر من المكاسب. مقتنع أنّ هذه الطرقات ستقوده إلى نسف ترشيح كلّ من فرنجية وجوزاف عون ليفرض على «الحزب» بحكم أمر الواقع، مرشحاً ثالثاً يترك له الهامش الأكبر من السلطة. وهو السيناريو الأكثر ملاءمة له، والأقل ضرراً عليه. ويوماً بعد يوم، يزداد قناعة أنّ مخططه يسير على أكمل وجه، طالما أنّ حظوظ فرنجية إلى تراجع دراماتيكي، وطالما أنّ ساعة خروج قائد الجيش إلى التقاعد تقترب سريعاً من دون أن يفرج الثنائي عن الفيتو الذي يرفعه ضدّ ترشيح الأخير.
ولكن ما لا يستطيع رئيس «التيار الوطني الحر» التحكّم به، هو المعادلة التي فرضت نفسها لإنجاز الرئاسة. في الواقع، فإنّ قيمة جبران باسيل المضافة عند «الحزب» تكمن في قبوله بخيار فرنجية لا غيره، لتحسين موقع هذا الفريق التفاوضي والسماح بإعادة تعويم مرشحه لفرضه على الخارج. أمّا غير ذلك، فيصير باسيل مساوياً لأي نائب معارض، لا يقدّم أو يؤخر في حسابات الثنائي، وتحديداً «الحزب»، لأنّه حين يقرر الأخير بيع هذه الورقة، للانتقال إلى مرشح ثالث، لن يمنحها لباسيل، ولا لأي طرف لبناني، وستكون المفاوضات على مستوى خارجي لا محلي.
عملياً، لم تتبنَ الإدارة الفرنسية معادلة المقايضة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، قناعة بفرنجية كخيار صائب، وإنّما لأنّها المدخل لإشراك «حزب الله» بتسوية كانت تعتقد أنّها ممكنة. ولم تسع قطر إلى ترويج ترشيح قائد الجيش إلّا بعد أن تجسّ نبض «الحزب» وتعمل على إقناعه. اذاً، لا رئاسة من دون «الحزب». وحين يقرر الأخير التخلي عن ورقته الأساسية، أي فرنجية، فلن يقبل بباسيل شريكاً في مربّع المرشح الثالث، ولن يعطي هذه الهدية بشكل مجاني لأي طرف داخلي، وتحديداً لباسيل.
بهذا المعنى، تصير مناورات جبران باسيل، بالنسبة لـ»حزب الله»، اذا ما خرجت من دائرة القبول بفرنجية رئيساً، غير ذي فائدة. ولهذا ثمة شبه تسليم لدى «الحزب» بأنّ المفاوضات الجارية مع رئيس «التيار» استهلاك للوقت لا أكثر، خصوصاً وأن عقدة ترئيس فرنجية الخارجية لا تقّل أهمية عن عقده الداخلية. ومع ذلك، فإنّ الحوار أمر لا يضرّ «الحزب»، بانتظار نضوج شيء ما في الخارج ليحين وقت الجدّ.
في الأثناء، يقول المواكبون إنّ مبادرة الوفد القطري لا تزال دون حرارة الإنضاج المطلوبة لكي يوضع طبق الرئاسة على الطاولة. وفق المتابعين، انتهت كما بدأت. وردّ الثنائي كان واضحاً: مرشحنا هو سليمان فرنجية. وهذا إن دلّ على شيء، فيدلّ على استمرار سياسة التطنيش التي يمارسها كلّ من واشنطن والرياض ازاء ملف الرئاسة اللبنانية.
حتى الآن، لا عروض جدية على طاولة «حزب الله» قد تسمح له بالانتقال إلى المرحلة «ب». أو بالأحرى لا ضمانات تسمح له بهذه النقلة التي تقضي بحصول تسوية يتنازل فيها عن فرنجية.
تدلّ المؤشرات على أنّ واشنطن والرياض تكتفيان بحقّ النقض، فتشطبان بشكل غير مباشر الترشيحات التي لا تتناسب مع حساباتهما، من دون أن تبادر أي منهما لعرض ما تريدانه من الرئاسة، وتحديداً في ما خص الاسم ومن دون ان تتبنيا أي ترشيح. ولو أن بعض المتفائلين يعتقدون أن المبادرة القطرية مدعومة بعامل الضغط الذي تفرضه الأزمة الاقتصادية، كما بعامل أوقاتها ومهلها…
وبالتالي ستفرض نفسها ممراً إلزامياً بعدما أثبتت الدوحة نجاحها في المفاوضات الأميركية – الإيرانية، الأمر الذي يساعدها في خرق الجمود اللبناني، على قاعدة أنّ اللبنانيين «مجبرون لا أبطال» في قبول التسوية مهما طال زمنها.