ينطبق المثل القائل «هل يُصلح العطّار ما أفسد الدهر؟» على جولات رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل على القوى السياسية الاساسية في البلاد، بحيث انه أعاد التواصل معها بعد انقطاع كامل عدة اشهر. يدور عليها بعد خصومات غير مبررة ومواقف حادة، جعلت كل القوى وحتى «حزب الله» أقرَب الحلفاء اليه، بل ربما الحليف الوحيد، يَنفر من تصرفاته ومواقفه، ولكن لم يكسر الجرة معه نهائياً فبقي حبل التواصل بين الطرفين قائماً للضرورة التي تفرضها التوازنات السياسية الداخلية.
كان يُفترض بالنائب باسيل ان يتحرك قبل الحرب الاسرائيلية على غزة وتوتير الوضع الحدودي الجنوبي، عندما كانت الظروف السياسية الداخلية والخارجية مؤاتية للقيام بحركة سياسية واسعة فعّالة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي والاصلاحات البنيوية المطلوبة من المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، لا الاكتفاء بـ«ورقة الاولويات الرئاسية للتيار»، و«الدوران» بها لترويجها على القوى السياسية وقد تضمنت عناوين سياسية وطنية وإصلاحية واقتصادية ودستورية عامة لا خلاف جذرياً حولها، لكنّ تصلّب باسيل وغيره من قوى سياسية في تلك الفترة ورفع سقف المطالب والشروط والحسابات السياسية الضيقة وعرقلة التوافق الوطني على الحوار لانتخاب رئيس للجمهورية، كل هذه الأسباب أحبطَت المساعي والاقتراحات الداخلية والخارجية لترتيب البيت الداخلي اللبناني على كل المستويات، والذي اصبح بمثابة «بيت بمنازل كثيرة».
لكن أن تأتي متأخراً خير من ان لا تأتي ابداً، فربما يُصلح «دوران» باسيل الاخير ما أفسده بيديه من قطيعة وخلافات مع القوى السياسية، بحيث يمكن التفاهم، إذا أحسن ادارة نتائج الجولة، على استعادة الوحدة الوطنية ليس في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي في تهديداته وأطماعه تجاه لبنان وحسب، إنما على الملفات العالقة منذ شغور موقع رئاسة الجمهورية والتي عرقلت عمل الحكومة والمجلس النيابي وانتظام عمل المؤسسات الدستورية والرسمية، ولو تم ذلك في ظل الشغور الرئاسي وفق مصلحة البلاد والعباد ووفق ما يقتضيه الدستور في هذه الحالة، وليس وفق مصلحة ظرفية للتيار او لأي فريق سياسي آخر في حضور الجلسات التشريعية او الحكومية واتخاذ بعض القرارات «غب الطلب» ووفقاً للمصلحة الخاصة.
ولعل أخطر ما يواجه لبنان هو الشغور في مواقع عسكرية وامنية وادارية مهمة، تحول الخلافات السياسية دون ملئهِ، وبما انّ انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة كاملة المواصفات والصلاحيات الدستورية يبدو مستحيلاً او متأخراً في ظل الظروف الحاضرة، فإنّ معالجة بعض الاشكالات القانونية التي أثيرت حول ملء الشغور في المؤسسة العسكرية مثلاً يمكن معالجته بهدوء لا بالتحدي والاستفزاز وتجاوز صلاحيات الوزير المعني، كإجماع الوزراء المشاركين في الجلسات على معالجته بتجاوز فريق سياسي وازِن في البلد له رأيه في كل الامور هو الفريق المسيحي، لا سيما في ظل شغور الموقع المسيحي الاول في البلاد.
ولهذا قال وزير الدفاع الوطني موريس سليم لـ»الجمهورية» بعد مغادرته السرايا الحكومية امس الاول خلال انعقاد الجلسة التشاورية الوزارية: يكفي ان يكون الرئيس نجيب ميقاتي قد وجّه إليّ مراسلة لا تصلح للتخاطب، وأنا منذ شهرين أناقش معه وبمبادرة مني أفضل السبل لتعبئة الشغور في المجلس العسكري.
واضاف: أنا أطلقتُ الخطوة الاولى مع رئيس الحكومة لإجراء التعيينات اللازمة، تحصيناً لمؤسسات وزارة الدفاع وحرصاً على الوطن… وليس بينهم من هو أشد حرصاً منّي.
على هذا، من الاجدى ان يستكمل النائب باسيل حراكه السياسي بتقديم بعض التنازلات او الافكار والاقتراحات التي تسهم في معالجة الملفات العالقة، قبل ان تتصاعد اكثر وتيرة التوتر العسكري عند الحدود الجنوبية وتُنذر بحرب ولو محدودة تزيد الاعباء على لبنان واقتصاده المنهار وعلى اهل الجنوب خاصة. بهذا يمكن تحصين الوحدة الوطنية الداخلية التي كانت عنواناً لجولته السياسية، حتى لو رفض بعض اركان المعارضة استقباله، فالحلول الايجابية قد تُسهم في تهدئة الوضع الداخلي الذي لم يكن يوماً هناك إجماع سياسي حوله.
ولعل الجملة المفيدة التي صدرت عن اجتماع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي امس، وفيها: «انّ موضوع المؤسسة العسكريه يجب مقاربته بهدوء وروية ويمكن الوصول الى النتائج المرجوة»، تكون مفتاح البحث الهادىء لحل ازمة الشغور في المؤسسة العسكرية، وبعدها حل الملفات العالقة الاخرى. فهل من الضروري والمفيد ان يختلف اللبنانيون في زمن الحرب بينما تتوحّد اسرائيل ضدهم ؟