لا تسير الأمور بسلاسة داخل «التيار الوطني الحرّ». الإرباك الذي يعيشه «التيّار» على المستوى السياسي ينعكس أيضاً على المستوى الداخلي. ثمّة تراجع مستمر في الحضور والدور والفعل لم يستطع رئيس «التيّار» النائب جبران باسيل أن يضع حدّاً له. ولذلك يبدو أنّه يخوض مواجهة على جبهتين: جبهة الوضع العام، وخصوصاً في ما يتعلّق باستحقاق رئاسة الجمهورية والعلاقة مع «حزب الله»، وجبهة الوضع الداخلي الذي يمرّ به «التيّار».
انتظر باسيل استحقاق التجديد له في رئاسة «التيار» بالتزكية ليعلن في احتفال 17 أيلول الماضي تولّيه القيادة الحزبية من دون منافس، ولكن لم يقل أنّ الولاية الجديدة ستكون من دون مشاكل. في هذا الإحتفال الذي غاب عنه النواب المعترضون على قيادته وإدارته للتيار، ألان عون وابراهيم كنعان وسيمون أبي رميا والياس بو صعب، وآخرون، أعلن أولاً النصر على معارضيه. قال: «فتحنا باب الترشيح وقدّمنا للجميع الفرصة بالتساوي، لكن رغم الدعوات والتشجيع العلني منّي ومن غيري، لا أحد استفاد من الفرصة وترشّح. هذا يعني تسليماً مسبقاً بالنتيجة المعروفة، وأنّ لا أحد عنده الاستعداد لخوض معركة انتخابية محسومة شعبياً. بهذا المعنى تكون التزكية ديمقراطية بنتائج حاسمة، وتكون أجمل المعارك هي التي تربحها من دون أن تخوضها».
لم يكتف باسيل بذلك بل ذهب بعيداً مع الإعلان عن أنّه بات لديه مساره الخاص محيلاً مؤسّس «التيار» الرئيس ميشال عون إلى التقاعد. قال باسيل: «هذا معنى التزكية للمرّة الثالثة، لأنّ التيّارالذي عنده حريّة الخيار، حدّد خياره… وهو ثقة بمساري وبخياراتي التياريّة والوطنية ودعوة لي لمواصلة المسار نفسه. وأنا أجدّد اليوم التزامي نفسه أمامكم من دون أي تراجع أو تنازل أو تعب. وإذا كان لأحد رأي مختلف، حقه بالاختلاف أو الاعتراض مقدّس، ولكن ضمن بيت التيّار وآليّاته، لا بالصالونات ولا بالإعلام. وعندما يصدر القرار على الجميع الالتزام به، ومن لا يلتزم يضع نفسه خارج النظام وتحت المساءلة والمحاسبة وصولاً إلى الخروج من التيّار. هذه حال الأحزاب وكلفة الانتساب لها… لا أحد مجبر، التيار نعطيه وليس فقط نأخد منه. وأنا على رأس من يلتزم بنظام تيّارنا، وأنا المَثَل، وحتى لو أنّ أموراً كثيرة لا تعجبني».
ما قاله باسيل عن حسم المعركة ضد معارضيه وتهديدهم بفرض الطاعة أو بالطرد لم ينجح في تكريس الأمر الواقع الذي أراده بدليل أنهم استمرّوا في تظهير الخلاف معه وبصورة أكبر وأوضح خارج «التيار» وداخله أيضاً. اختار باسيل معاونين له في قيادته الجديدة من الموالين شخصياً له، ولكن لم يظهر أن القيادة الجديدة قادرة على تأمين حماية رئيس «التيار» في المواجهة المفروضة عليه.
التحدّي مستمر مع المعارضين
مشكلة باسيل مع المعارضين له بدأت منذ تبوّأ، بضغط من العماد ميشال عون، رئاسة «التيار» بالتزكية في أيلول 2015. وهو مستمرّ في هذا الموقع بالضغط نفسه وبقرار من الرئيس عون وبتجنب المعارضين تفجير معارضتهم طالما أنّ عون مستمرّ في تغطية باسيل، لأنّ أي معركة من هذا النوع تُعتبر خاسرة، ولأنّ باسيل استطاع بفعل مراكمة العمل السياسي العام وداخل «التيار» أن يكوِّن أرضية مؤيّدة له لا يمكن خرقها بسهولة وإن كان من غير الظاهر أنه استطاع ترويض المعارضين، أو قمعهم، من خلال تهديدهم بالطرد من التيار. وهذا التحدي مستمر بينه وبينهم.
ظهر الخلاف بوضوح في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في 14 حزيران الماضي عندما تسرّبت معلومات عن أنّ نواباً من «التيار»، ومن ضمنهم نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، لم يماشوا باسيل في خياره التقاطع مع القوى المعارضة على تبنّي ترشيح الوزير السابق الدكتور جهاد أزعور. كان النائب ألان عون واضحاً في رفض هذا التقاطع وطرَح في المقابل مسألة تسمية مرشح من «التيار» غير باسيل مسمِّياً النائب ابراهيم كنعان. ولكنّ المحاولة فشلت.
صحيح أن باسيل وعد بالمحاسبة وبتحقيق داخلي يكشف الذين لم يلتزموا بقرار «التيار»، الذي صدر عن عون وعن باسيل وعن المجلس السياسي، ولكنه لم يستطع أن يعلن النتيجة المعروفة من دون تحقيق. ولا الذين عارضوه أعلنوا صراحة أنهم لم يصوِّتوا لأزعور. ولذلك بقيت المشكلة كامنة من دون حلّ لحاجة باسيل إلى عدم كسر الجرّة مع المعارضين من النواب، ولحاجة المعارضين للبقاء داخل «التيار» وعدم خلق الأسباب الموجبة التي تجعل باسيل يأخذ القرار بإبعادهم من التيار.
خطأ معارضة قائد الجيش
ما تلافاه باسيل جعل المشكلة تكبر أكثر. في استحقاق التمديد لقائد الجيش العماد جوزاف عون عاد الإنقسام في الرؤية والآراء إلى الظهور بوضوح عندما لم يمشِ المعارضون في خيار باسيل رَفْض التمديد، وفي ذهابه أكثر في الإعتراض على قائد الجيش واتهامه بقلة الوفاء وخيانة الأمانة. وصورة الإنقسام الداخلي في «التيار» تجلّت أكثر في مراسم تشييع والدة العماد عون وتقديم التعازي، حيث ظهر وكأنّ في التيار أكثر من تيار. وظهر هذا الإنقسام أيضاً في الطعن الذي قدّمه «التيار» أمام المجلس الدستوري في قانون التمديد ومن خلال النواب الذين وقّعوا عليه ولم يكن من بينهم أي من المعترضين. خسارة باسيل معركة التمديد أمام العماد جوزاف عون شجّعت المعارضين على تظهير اعتراضهم أكثر.
الموازنة وترشيح كنعان
في جلسة مناقشة الموازنة في مجلس النواب لم تكن مسألة عابرة أن يبادر النائب ألان عون إلى ترشيح زميله النائب إبراهيم كنعان إلى الرئاسة، معتبراً أنه «يملك المواصفات وتنقصه الفرصة»، وأن يوجّه التحية من خارج السياق العام للأحداث إلى الرئيس سعد الحريري «لجرأته على اجتراح التسويات التي يحتاج إليها لبنان الآن». ولم تكن مسألة عابرة أيضاً أن يعلّق النائب جميل السيد على الموضوع معتبراً أنّ مطالعة كنعان في الجلسة بصفته رئيساً للجنة المال والموازنة بمثابة خطاب قسم.
في الواقع تمّت الإستفادة من موقع كنعان في رئاسة اللجنة وفي التعديلات التي أُدخِلت على الموازنة التي أعدّتها الحكومة لبناء مادة أساسية للإنطلاق في الترويج لمسألة أن يكون كنعان مرشحاً للرئاسة في تحدٍّ واضح لخيار باسيل الذي لم يحرك ساكناً علناً تجاه هذه المحاولة المكشوفة لزكزكته وإثارة حفيظته. حتى أنّ كنعان نفسه لم يُخفِ هذا الأمر عندما اعتبر أنّه لم يعلن ترشّحه ولكنّه مستعدّ لتحمّل المسؤولية شاكراً البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على إيراد اسمه بين الأسماء المرشحة للرئاسة. وهناك معلومات تتحدث عن أنه حاول أن يمهّد لترشيحه خلال زيارة له إلى واشنطن ووجّه رسائل بهذا المعنى إلى «القوات اللبنانية» من دون أن يلقى التجاوب المطلوب.
ماذا سيفعل جبران؟
يستفيد معارضو باسيل من تراجع وضعية «التيار» على المستوى السياسي العام منذ ثورة 17 تشرين 2019، ومنذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، ومنذ بدء الخلاف الكبير مع «حزب الله» حول الخيارات السياسية والرئاسية. ويحمّلونه مسؤولية الخسارات المتتالية التي لن تكون نهايتها في خسارة معركة التمديد للعماد جوزاف عون وسقوط الطعن الذي تقدم به أمام المجلس الدستوري. ويعتبرون أنّ هذه السياسة المتراجعة أدّت عملياً إلى خسارة «التيار» شعبياً والدليل إلى ذلك نتائج الإنتخابات الطلابية والنقابية في أكثر من جامعة وأكثر من نقابة. وبالتالي هناك من يسأل اليوم داخل «التيار» ماذا سيفعل جبران باسيل؟
ثمة من يعتبر أن باسيل لا يمكنه أن يتحمّل المعارضة من داخل «التيار» أكثر من ذلك. ففي الحسابات الحزبية بالنسبة إليه سيصل إلى وقت يعتبر فيه أن بقاء المعارضين داخل «التيار» يجعلهم أقوى في مواجهته، وأنّ الخيار الأنسب له قد يكون في تظهير المشكلة أكثر إلى العلن واتخاذ القرار بإبعادهم من «التيار»، لأنّ هذا الأمر يجعلهم أضعف ويُفقدهم أسباب القوة التي لا يزالون يمتلكونها. فمن خلال الوضع القائم لا يمون عليهم ولا يضمن أصواتهم في أي معركة سياسية، خصوصاً في استحقاق رئاسة الجمهورية، وحتى في مناقشة الموازنة كانوا يغرّدون بعيداً عنه فبدا في كلمته خلال جلسة مناقشة الموازنة وكأنّه في مكان وهُم في مكانٍ آخر. قال كلمته ومشى من دون أن يمشوا معه.
قد يكون من الأفضل له أن يتخّذ القرار الصعب لكي يظهر من خلاله أنّه يمسك بالتيار بقوة ولكي يطبق ما قاله في خطاب التنصيب في 17 أيلول الماضي «عندما يصدر القرار على الجميع الالتزام به، ومن لا يلتزم يضع نفسه خارج النظام وتحت المساءلة والمحاسبة وصولاً إلى الخروج من التيّار». هذا الأمر يبقى بالنسبة إليه أفضل من أن يقال عنه أنه بات ضعيفاً أمام معارضيه الذين يجهرون بمعارضتهم. ويبقى السؤال «ماذا سيفعل جبران؟». ليس على مستوى الخيارات السياسية والمعارك الخاسرة فحسب بل على مستوى الأزمة الداخلية في التيار. فهي طبعاً ليست أجمل المعارك التي يخوضها.