لولا أن النائب جبران باسيل كرّرها في السنوات الثلاث الأخيرة، عشرات المرات، على خطورتها، لم أكتب. ولولا أنه لا يجوز له العودة إليها، نظراً لمعانيها المكروهة عند من تعنيهم مباشرةً لم أُنَبّه!
مؤسفٌ أن رئيس «التيار الحر» جبران باسيل اختار واحدة من أفضل المزايا الموضوعية التي تجلّت في مواقف الشهيد السيد حسن نصرلله لينفَذَ منها إلى انتقاده، وهي أهم ما يحترمه شيعةُ لبنان، ويحترمون الرئيس نبيه بري، لأجلها: «وحدة البيت الشيعي» التي زرعت مودّة بين الناس بدل النزاع. كان في علْم الرجُلين أن الأنظار الخبيثة من داخل لبنان وخارجه تتمنى اشتباكاً بين التنظيمَين يمكن معرفة من أين بدأ لكنْ لا أحد يعرف كيف ينتهي: الدم والدم المضاد. دمُ الشيعة كان مطلوباً لشماتة أخصامهم وأعدائهم معاً. وبدلاً من أن يكون بينهما تحالف على السرّاء والضرّاء، تكون حرب داخلية تُحوّل العائلة الواحدة التي ينتمي أبناؤها إلى التنظيمَين إلى ساحة اتهامات ومشاحنات وقتال فترتاح إسرائيل من الطرفين بشطحة وقت. وليس تخويناً لباسيل ولا لغيره القول إن فك التحالف بين الحركة والحزب كان غاية المُنى عند إسرائيل أولاً، وكلامه يصب في هذا المجرى من دون أن يدري؟!
ميشال عون في فترة رئاسته، سُئل في مقابلة تلفزيونية عن سرّ الوحدة بين الحزب والحركة فأجاب: «الحزب والحركة متل التوأم السيامي، لا ينفكّ الواحد عن الآخر إلّا بالدم». ألم تسمع يا جبران بهذا الوصف الدقيق. وليس هناك انفكاك سياسي بين هاتين الجهتين اللتين تتصرفان في السياسة كأنهما جهة واحدة، من دون نتائج دموية على الأرض في مناطق يتقاسم فيها الطرفان البيئة والمشروع والحياة ككلّ. النائب سيزار معلوف وهو أصدق وأجرأ النواب يقول في مقابلة قبل أيام: «لو كان السلاح الذي في أيدي الشيعة، بأيدينا كمسيحيين في هذا الوضع كنّا ذبّحنا بعضنا»…
نحن في لبنان نعرف هذا النوع من الحروب الصغيرة ذات المفاعيل الكبيرة والمدمّرة، من مجريات حروب «داخلية» عدّة حصلت داخل أغلب الطوائف، ومنها الطائفة الشيعية ذاتها. ولعلّ أوسعَها ما جرى بين الميليشيات المسيحية في حروب توحيد البندقية على يدي «القائد» يومها بشير الجميل وما أُزهق فيها من أرواح إخوة وأبناء عم وأقارب قبل أرواح الأبرياء بالمئات. ونعرفه جيداً أيضاً من معارك قيادات «القوات اللبنانية» بين بعضهم بعضاً وكل فريق مع جماعته في مرحلة الثمانينيّات. ونعرفه ثالثاً من حرب عون – جعجع التي قسّمت البيوت والأحياء والمناطق وحلّلَتها للذبح المروّع، وليس تضخيماً هذا الوصف بل حقيقة واقعة.
«حروب الإخوة» نحفظها غيباً، و«حزب لله» و«حركة أمل» دخلا تجربة التجاذبات الدموية، لسنتين عصيبتين ما زالتا ماثلتَين للتعلّم والإدراك. وعندما تبوّأ السيد نصرلله الأمانة العامة للحزب كان توافق دقيق وتفصيلي مع الرئيس بري على تجاوز «الوقائع الخطيرة» السابقة والبدء بمرحلة جديدة كلياً يتنافس فيها الطرفان على خدمة البيت الشيعي (هذا هو لبنان!) وتحصينه من اختراقات كانت قوى عربية ودولية تعمل عليه. ومرّ أكثر من ثلاثين عاماً بين التنظيمين فلم يحدث فيها أي خلل بسيط أو جَلَل إلا وكانت يد الإطفاء تحاصره وتدفنه حيّاً. وحدةُ حالٍ حيّرت الأصدقاء والخصوم. وفي حين كان زعماء كل طائفة من الطوائف اللبنانية يتخاصمون، ويتحَدّون بعضهم ويتحاربون في السرّ والعلن، خلال ربع القرن الأخير، كان البيت الشيعي بعيداً عن أي احتكاك. وكان ترتيبٌ خارق للمهام: حزب لله للمقاومة، والرئيس برّي لشؤون الدولة. لا تخاصَما على نائب ولا على وزير ولا على مدير عام ولا على موظف، وكانت بقية الطوائف تفتش عن السرّ في هذا التوازن بين التنظيمين.
إن سبب التوازن الخلّاق كان شعور الرئيس نبيه بري والسيّد حسن نصرلله بأن رأس الطائفة مطلوب لأخصامها هنا وهناك وهنالك، وعليهما إعطاء الأمثولة الوطنية والدينية معاً كأفضل ما يكون. وإذا كان مَيل «حركة أمل» في السابق يتجه سياسيا إلى سوريا، ومَيل «حزب لله» يتجه إلى إيران، فإن تراجع الدور السوري المباشر منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، ومرحلة «الثورة» في سوريا قلّصت علاقة الحركة بسوريا، وقويَت علاقتها بإيران.
مرّةً، منذ ثلاثة أعوام، سألتُ نائباً في «حزب لله» عن تصاريح باسيل الانتقادية لبرّي ولماذا لا يستوقفونه عند حدّ خصوصاً وأنها تنعكس سلباً على بعض قواعد «الحركة»، أجابني نائب الحزب بوضوح: «يعتقد باسيل أنه حين يتهم الآخرين بالفساد يُنسي الناس دوره. مليارات الدولارات التي صُرفَت على وزارة الطاقة والكهرباء التي كانت منذورة له ثلاثة عشر عاماً، ولم نرَ نور شمعة، كلّها أو جُلّها ذهبَ في الفساد لا في شيء آخر. لكننا نسكت عنه لأننا ضد المشاركة في إثارة الفضائح. أما علاقتنا مع الرئيس بري فلا تستطيع نسمة الهواء أن تتسلل بيننا وبينه، ولن يدخل جبران باسيل ولا غيره»؟
فهل كان باسيل يعتقد بأن قُربَه من السيد نصرلله سوف يجعله أقرب من الرئيس بري إليه؟ وبرّي صرّح قبل سنوات طويلة أنه والسيد نصرلله «روح واحدة في جسدين» لا على سبيل المجاملة بل على سبيل «تطمين» المنشغِل بالهم من «وحدة البيت الشيعي». والسيد نصرلله لطالما ناداه بالأخ الأكبر احتراماً لمنزلته عنده وتقديراً لدوره لا على صعيد الطائفة فقط، وإنما على صعيد مركزيّته العليا في الحركة السياسية اللبنانية. وإذا كان باسيل يريد وَسْم نصرلله بالطائفية في هذا التعبير، فليس هو من يوسِم الآخرين ولم يترك طائفة لبنانية من لسانه، في طريق دفاعه عن «حقوق طائفته»!
لقد بقيَ باسيل لثلاث سنوات متتالية يجاهر بأن «وحدة البيت الشيعي» هي الأساس الذي اختلف ويختلف عليه مع «حزب لله» الذي كان يضعها أولويةً مُطلقةً، ومنطقةً محرّمةً شرعاً وقانوناً وتكتيكاً وإستراتيجياً. ومعاركه الهمايونية «مع الفساد» على طريقة إبعاد التهمة عن نفسه بإغراق الآخرين بها وفي ظنّه أن شِدّة «الزَّنِّ» على التيمة نفسها سيفرض ثغرةً ما، في مكان ما، انتهت إلى الفشل وبانَت عن قِصَر نظَر عميق. فقد كان يُنَيشِنُ على الرئيس بري متكهّناً أنه سيربح، في وقت كان لا بري ولا أحد مسؤولي الحركة ولا حتى النواب يردّون عليه أو يلتفتون إلى ما يقول إلّا عندما تدعو الحاجة الماسّة!
وبقدرة قادر، دبّ عقل الرحمان في رأس جبران باسيل، وراح يتقرّب إلى بري، مغازلاً حيناً متودداً أحياناً، معتقداً أنه سيستمع إلى ما يقول سلباً أو إيجاباً، وبري «صَالي» له مع كل خطوة أو موقف!
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكَر ينبغي الاعتراف بأن «وحدة البيت الشيعي» كانت جائرةً أحياناً وشكّلت ما يشبه البلدوزر المانعة، أمام كل شخصية شيعية مستقلة أو غير منتمية إلى التنظيمَين في الترشّح للانتخابات النيابية أو الطموح إلى وزارة. وهذا في حدّ ذاته حصار سياسي وشعبي على الناس. إنما مجرّد تَذَكُّر المشاحنات العائلية والمناطقية السابقة في مواسم الانتخابات وتأثيرها المباشر على حياة مناصري المرشّحِين أحياناً، ناهيك عن الخصومات والصدامات بالسلاح، وقبلها بالحجارة والعصيّ وما تتركه من ندوب جديّة عميقة في تلوينات المجتمع الأهلي، تجعل الواقع الحالي منذ خمسة وعشرين عاماً إلى اليوم في البيئة الشيعية معبّراً عن توازن هو فعلياً احتكار «مُنظّم»، وسيّئتُه الكبرى أنه «أناني» سياسياً، وغير منطقي، يمنع بعض الطاقات المتميزة من أن يكون لها صوت، لكنْ يكفي الالتفات سنتين وراءنا إلى الانتخابات السابقة لنسمع ونرى ما كان يدبّره، علناً، أخصام فريقيّ التنظيمَين سياسياً، الذين سعَوا إلى فوز أي شخصية شيعية في الانتخابات، كائنة مَن كانت، ذات قيمة وازنة أم بقيمة قليلة، من خارج الحزب والحركة، لكي يؤمّنوا لها النصاب وينتخبوها بالتحدّي و«المَرجلة» اللبنانية الفولكلورية لرئاسة المجلس النيابي مكان الرئيس نبيه بري ولم يوَفّقوا!
وإذا كانت لجبران باسيل عقدة من التحالف داخل الطائفة الواحدة نتيجة فرط «المصالحة المسيحية» وانهيار شعار «أُوعى خيّك» بعد التوافق على اختيار العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، فلا حزب لله ولا حركة أمل ولا أي قوى سياسية أخرى تتحمّل المسؤولية عن ذلك، بل الحقد المزري بين الطرفين اللذين لم يستطيعا التعايش لأكثر من سنتين، لتعود النكايات والنكَد والحساسيات تضرب أطنابها فيهما. والبهجة التي عمّت الشارع المسيحي يومها كانت جديّة واقتنع جمهور الطرفين بأن في الوحدة قوّة، غير أن تقاسم الحصص والتعيينات بقدْرِ ما هو زائل وهشّ، أدّى إلى الانحلال وعودة التراشق بالتّهَم بينهما، وأغلبُ المتابعين الجديّين في البلد أرجعوا الخلاف إلى رغبة جبران باسيل بالإستئثار بكل مكاسب السّلْطة بدلاً من توزّعها على التيار والقوات، وكان الاتفاق مبنياً على القسمة العادلة «النصف بالنصف» ما اعتبره باسيل، بعد وصول الرئيس عون، إجحافاً بحقه، فخرج من المصالحة قائلاً فيها ما لم يقلْه مالك في الخمرة، وهذا هو بالضبط ما يبدو أن باسيل متّجه إليه مع حزب لله. وما قاله عن السيد حسن نصرلله قليل، قياساً بما سيقول في مقبل الأيام القريب لغَسْل نفسه وتياره من قرابة عشرين عاماً من ورقة التفاهم التي لم يَنظر إليها باسيل إلّا كورقة (بقرة حلوب!) تعزز حضوره في الحكومات التي كان الحزب لا يشارك فيها إلّا إذا كان «التيار» راضياً ومرتاحاً أقلّه في وزارة الطاقة التي باضت وتبيضُ ذهباً، فضلاً عن إيقاف البلد على شفير انفجار انتظاراً لتأمين وصول عون إلى الرئاسة الأولى التي تحوّلت «جهنم»، وإلّا.. فإن مصير «الورقة» هو أقربُ سلّة مهملات حين سيبدو لباسيل أن حزب لله يعاني، أو أنه ضعُف كما يتوهّم اليوم!
فالقاعدة التي يبني عليها باسيل موقفه الراهن من عدوان إسرائيل الهمجيّ هو أن «حزب لله بدأ الحرب»، وهذا قناع بائخ، إذ أن حرب ٢٠٠٦ بدأها الحزب أيضاً ووقف معه «التيار» عبر تفسير رئيسه ميشال عون حادثة خطف جنود إسرائيليين أو قتلهم بأنه «حادث حدود» لا يستدعي حرباً. فهل هناك لم يبدأ «الحزب»، وهنا بدَأ؟ السرّ في ذلك أن عون كان لم يصل بعد إلى الرئاسة الموعودة.
وإذا كان لا بدّ لجبران باسيل، بعد اليوم، أن ينتقد الشهيد السيّد حسن نصرلله، فليبحث عن نقيصة فيه إذا وجَد، فهو بشَريّ وليس من الملائكة، لا عما يعتبره بتهويماته عِلّةً وهو برهان احترام وتقدير وأريحيّة لهُ عند طائفته.