يلفّ ويدور رئاسيّاً حول نفسه
من هندسة “اتفاق مار مخايل” مع “حزب اللّه”، وتسويق مفهوم حلف الأقليات تحت تاج بشّار “حافظ” الإنسان والحريات وصانع الجحيم، إلى وراثة زعامة “الجنرال” وحاكمية عهد عمّه الرئيس السابق ميشال عون… محطّات ومدارات سطع فيها نجم جبران باسيل. “إنجازاته” لا تُحصى ولا تُعدّ في الطاقة والمياه والوزارات وشتّى الميادين. أحلامه القيادية لا حدود لشططها، حيث بشّر المسيحيين يوماً “بأنه سيُنَسّيهم كميل شمعون وبشير الجميّل”. كما زاحم كبار مفكّري ومنظّري العلم السياسي في كيفية تطوير الأنظمة وترشيد الدولة، مضيفاً إلى كتاب “روح القوانين” (لمونتسكيو) فقرة “تسيير شؤون الحكم من دون موازنة”، مُبهراً بذلك القوى العظمى والأمم التوّاقة للتغيير.
لكنّ باسيل “المُتَضخّم” بعضلات غيره والمتقلّب سياسيّاً، أحرق مراكبه مع كلّ الأطراف السياسية، الصديقة قبل اللدودة. ومع سقوط عرش الأسدين (الأب والابن)، فَقَدَ رئيس “التيّار الوطنيّ الحرّ” الحبل السري والسند الخارجي الأخير، الذي كان يلجأ إليه لرفع شكواه، لا سيّما في الملفّ الرئاسي، ضدّ المرشّحين المحسوبين تاريخيّاً على “سوريا الأسد”، كزعيم “المرده” سليمان فرنجية. فلا قصر للمهاجرين والمجرمين بعد الآن، يستقبل الحجّاج والمبخّرين والمنتفعين اللبنانيين، ولا مواسم حجّ إلى براد لـ “زكزكة” البطريركية المارونية وإضفاء مسحة مشرقية على زعامته.
تراجع وريث الجنرال عون من “مرشّح رئاسي” في الخفاء، إلى “حرتقجي” يُجيد العزف على وتر التوازنات النيابية بين الكتل والقوى السيادية والمعارضة من جهة، و “الممانعة” من جهة أخرى بعد فكّ ارتباطه بـ “الثّنائي الشيعي”. غير أنّ الزلازل الإقليمية والمحليّة التي ضربت لبنان وسوريا والمنطقة، والمصحوبة بسلسلة عوامل وتراكمات داخلية لها علاقة بـ “التيار”، جعلت باسيل لاعباً ثانويّاً، أو بالأحرى، ينكفئ إلى الخطّ الخلفي من جرّاء هبوط أسهمه وأرصدته داخل نادي الأقطاب الأساسيين، بعدما كان يُعدّ إلى جانب حزب “القوّات اللبنانية” مفاوضاً مسيحيّاً وازناً. أمّا اليوم، فتُشكّل معراب محورية الحراك السياسي والرئاسي، ومحطّة أساسية للموفدين الدوليين المعنيين بالشأن اللبناني. كما أنّ وزن كلمتها وشعبيتها وعلاقاتها الإقليمية العربية والدولية أثقل من “ميرنا الشالوحي” ورئيسها المُدرج على لائحة العقوبات الأميركية.
يشير عارفون بأوضاع باسيل إلى أنّ الأخير خسر مرتكزات قوّته الموروثة والمكتسبة. يصرف ما تبقّى من مدّخرات “الإرث العوني” الذي يتهاوى ويُستنزف منذ استئثاره بزعامة “التيار” وانتهاج “ذهنية أسدية” في التعامل مع “الرفاق” والمؤسسين والبطش بهم.
ثمّ إن حراكه الرئاسي الأخير “بلا بركة”، فهو يدور ويلفّ حول نفسه، حيث إنّ معظم القوى السياسية لا تثق به “ما حدا بحطّ إيدو تحت بلاطته”. لم يعد يملك سوى كتلة نيابية مُهشّمة، يجول بها على المرجعيات والكتل البرلمانية لاستحداث تقاطعات ما، تضعه داخل مدار التأثير الرئاسي أو تُعيده لاعباً ممتازاً من الدرجة الأولى. من ناحية، تُحسب هذه النقطة علامة قوّة له بمكان ما، بمعنى، أنه لا يزال يحظى بهامش من المناورة و”النَطْنَطة”. وتحسب علامة ضعف من ناحية أخرى، كون عنصر التقاطع وحده لا يُشكّل عامل استمرار وتقدّم في الحياة السياسية، ما يعني أنّ عدم مراكمة النجاحات وزيادة الوزنات الشعبيّة والنيابيّة والمبدئيّة (التي تراجع فيها باسيل)، لا يعني الثبات، ولا يؤمّن مقوّمات الصمود مستقبلاً، خصوصاً بعدما فقد وهج فعاليته السلطوية التي جمعها أيام “جنان العهد”، وبعد تَكَسُّر تحالفاته الإقليمية.
أما سقوط صورته المعنوية والأخلاقية، فبرزت إزاء قضية المعتقلين في جحيم “البعث”، لدرجة أنه عجز عن الاحتفال بسقوط الطاغية. وأحدثت مشاهد صيدنايا وظهور أسرى لبنانيين في سجون الأسد، (مكذّبةً بذلك تصريح الجنرال الشهير بأن لا وجود لمفقودين في دمشق)، بلبلة داخل جمهور “التيّار” وبعض قيادييه، وفق مصادر مطّلعة. ولم يقدّم باسيل وماكيناته الإعلامية، أي حجّة متماسكة يدافع بها عن نفسه وعمّه سوى نبش القبور واستعادة حروبهم العبثية. فالجنرال عون الذي دعا اللبنانيين خلال إحدى زياراته الدمشقية إلى الاعتذار أولاً، صدّق هو وصهره “وحش الشام” (رمز الصدق)، ولم يُصدّقا علي أبو دهن وريمون سويدان وفادي غندور وأسماء عديدة وعديدة من الذين نجوا من مكابس الأسد، وشهدوا على وجود مئات المعتقلين اللبنانيين… بعد كل هذا الاعوجاج والانقلاب على الذات، هل يتّعظ باسيل ويُعيد حساباته؟ كلّ الحسابات؟