لم يُظلم جبران باسيل. كلّ ما في الأمر أنه دَفع ثمن عدم التعلم من أخطاء الجنرال. أخطأ في قراءة المتغيّرات وطمع في الرئاسة مُلاعباً الكبار بأدوات الصغار، فجاءت العقوبات “الذكية”، مثلما جاء قبلها بثلاثين عاماً احتلال القصر والنفي. ولم يأخذ بحكمة ألبير كامو ان “المثال ليس بالضرورة مثالاً للإتِّباع”، رغم استشهاده بأحد أقواله أثناء تلاوة دفوعه للاتهامات، مقتطعاً اياه من السياق.
لا أحد يرجم بالغيب. فقد يتكرر التاريخ على شكل مأساة أو ملهاة ويعود جبران على حصان أبيض ليستعيد “مُلكاً مضاعاً”، مثلما قد لا تُسعفه مقولة عمر المختار “الضربة التي لا تكسر ظهرك تقويك”. لكن الأكيد هو أنّ باسيل حالياً في حال تفترض لحظة تأمل أو البكاء ليرتاح.
لبنان كلّه مظلوم. فالاتهامات التي كيلت لباسيل تبريراً للعقوبات تصلح لكلّ من شاركه منظومة السلطة ومن سبقه إليها منذ التسعينات. كلهم تحت الغربال المحلي والأجنبي للنزاهة والوطنية والأخلاق. ولم يخصّ اللبنانيون الذين ثاروا في 17 تشرين جبران بالاستهداف إلا لأنه الأكثر “نجومية” وتصدراً للمناسبات والمناكفات ومرشح لتطويل المعاناة، مع انه ليس بالضرورة الأكثر فساداً وارتكاباً للموبقات وإضراراً بالسيادة والاستقلال.
من حق باسيل ان يشكو تسييساً واضحاً للعقوبات. فالخطوة الأميركية التي تحاسبه في الأساس على تغطيته وعمِّه لـ”حزب الله” غير مخفية الأهداف. فاسدون كثر تسلّموا وزارات ومناصب فأثروا وتواطأوا على مصالح لبنان واللبنانيين وتورّطوا في الدم والدمار يستحقون إدراجهم في اللوائح بحسب قوانين “اوفاك” او “ماغنيتسكي” او “قيصر” فيما تمتنع الادارة الاميركية عن ذلك لأنهم إما لا يتأثرون بالعقوبات او تحتاجهم في مراحل معينة او دخلوا في بيت الطاعة. غير ان حدود مظلوميته المساواةُ ووحدةُ المعايير لا جوهر الاتهامات.
لا خلاف على ان واشنطن تحاسب من تشاء وتُعفي من تشاء، لكن لا شيء في العقوبات التي فُرضت يناقض مصلحة كل لبناني اكتوى بنار المنظومة التي سرقت ونهبت وهدرت ثم تسببت بانفجار المرفأ الذي لم يُعرف مرتكبه حتى الآن. وفي غياب قدرة الشعب على تغيير حاكميه بفعل القمع والتحالف بين السلطة والميليشيات، وفشل المؤسسات في إحقاق الحق وتثبيت دولة القانون، يصعُب الاعتراض على عدالة أميركية معولمة تردع المستهدفين، على الأقل عن التمتع الحر بالأموال والمفاخرة بالمآثر والانجازات والنضالات المزوّرة وصولاً الى الحلم بالرئاسات.
حبذا لو توافرت هيئة دولية محايدة تتجاوز تفاهات حجة “السيادة الوطنية” التي استخدمت دائماً لممارسة الاستبداد، فتقيم عدالة عالمية فورية تمنع الحاكم من التحكم برقاب الناس، وتفرض الحوكمة الرشيدة واحترام حقوق الانسان وتحاسب اي مسؤول عن انتهاكات، لكن، اي عدالة تحاكي بعض هذه المبادئ والأهداف أفضل حتماً من منظومة شريعة الغاب والإفلات من العقاب.