كان يقعد في الزاوية نفسها عند باتيسري “الحاج يوسف” في الأشرفية، منكباً على أوراق يكتب وينقّح بالفرنسية والعربية ومعه باقة من أقلام البيك، أو يقرأ صحيفة “لوريان لو جور” متلففاً بـ”ترانشكوت” مهلهل، عاقداً شعره الأشيب كيفما اتفق ككاهن أرثوذكسي منسي في جبل آتوس. لوحده دائماً، خلف نظارتين صغيرتين مع كمية من الأوراق يحملها في كيس نايلون. لا أحد يخالطه. الجميع يمرّون إلى جانبه ويرمقونه بنظرة ذات مغزى. هو إدمون خياط “إبن اسرة عريقة في مجالي الإنتاج والتوزيع الفنيين. حمل صليباً عليه كلمة “الإنسانية” بالعربية والأجنبية وراح يزحف على مراكز النفوذ والقرار في لبنان والخارج”، كما عرّف عنه الكاتب مروان نجار. كان يسلّم المسؤولين مذكرات مطبوعة ومؤلفاته، يشرح لهم أفكاره الخلاصية وقوفاً، ثم يغادر وصليبه (الحقيقي) على منكبيه. استقبلته مرة في باحة “المجلس الحربي”، حاملاً صليبه. طلب أن يقابل فادي فرام، فنزل إليه وأصغى إليه باهتمام، ثم غادر وصليبه الحقيقي إلى مقرّ سياسي آخر، آملاً بالدعم المطلوب لمواصلة مسيرته الإنسانية.
غريب الأطوار إدمون خياط هذا الصوت الصارخ في براري الوطن، الصادق حتى آخر حدود الصدق. آخر مرة سمعت باسمه في العام 1988. نزل إلى المجلس النيابي الموقت في قصر منصور وعلى صدره علق لوحة “أبحث عن ضمير” وفي يده قنديل ديوجين، لم يصغِ إلى نداءاته أحد. فقط خاتشيك بابكيان دعا مجلس النواب إلى دعمه كي يواصل رسالته العالمية.
من لا يعرف إدمون خياط باسمه، يعرفه كـ”حامل صليب الإنسانية” إلى أن جاء بعده بأعوام، مناضل وطني أممي، ظلمته زعيمة العالم الحر وهدّته الإشاعات لكن الرجل قُدّ من جلمود، و”ياما وياما” تكسّرت على صدره “النصال على النصالٍ”. قل فقط جبران يقوم لبنان ويقعد. قبل أيام غرّد في مناسبة عالمية “إعتدتُ الظلم وتعلمت من تاريخنا: كُتب علينا في هذا الشرق أن نحمل صليبنا كل يوم…لنبقى”. كتير هيك. كدت أنفجر بالبكاء تأثراً. فكرت بلحظتها مساعدة جبران على حمل صليب المشرقيين والمضطهدين جميعهم فقفز أمامي النائب المتطوّع سليم عون، ليخاطب المعلم “جبران باسيل، معك سنحمل صليب لبنان، هذا هو قدرنا وهذه هي إرادتنا”. هممت بالبكاء، لكن صوتاً ما، يشبه صوت نيكولا صحناوي هتف من أعماق الأشرفية ووصل إلى أدما “المستهدف ليس جبران باسيل بل المستهدف كل لبنان”. عندها ذرفت دمعتين: دمعة كبرياء ودمعة افتخار.
في الواقع، وبعيداً من كل “نكنكة” و”شماتة”، إن اللبنانيين، بأكثريتهم الساحقة، حاملون من حامل صليب لبنان الـ”ما بينحمل”، وهذا يفسر سر سعادتهم الجماعية الموقتة بعد ظهر يوم الجمعة…