خطوة واشنطن تعيد الأمل بالمحاسبة وعون مطالب بتنفيذ وعده.. والعين على البقية
فرحُ اللبنانيين بالقرار الأميركي بفرض عقوبات على الوزير السابق جبران باسيل، ووضعه على اللائحة السوداء استنادًا إلى «قانون ماغنيتسكي»، لا ينبغي أن يحجب أمرين مهمّين بصرف النظر عن أسبابه أو أية تداعيات محلية أو سياسية قد تترتب عليه؛ الأمر الأول، الأسف الشديد لأن من قام بكشف وفضح فساده هي جهات خارجية وليس القضاء اللبناني الذي يفترض به المبادرة إلى ملاحقة المتورطين، ومحاسبة الفاسدين، واستعادة حقوق الشعب من ناهبيها. والأمر الثاني انتظار توسّع دائرة العقوبات لتشمل دفعات جديدة من الفاسدين الآخرين ليعرف الشعب، بالحدّ الأدنى، سارقيه، وليتشجع خطوة إلى الأمام باتجاه تحرير وطنه منهم.
من المهم بمكان، بعيداً عن صخب التظّلم وادّعاء العفّة والنزاهة، عدم نسيان حيثيات القرار الأميركي بحسب وزارتي الخزانة والخارجية الأميركية، وفيها أن باسيل «من خلال أنشطته الفاسدة، ساهم في نظام الفساد السائد والمحسوبية السياسية اللذين ابتلي بهما لبنان «عبر المناصب التي شغلها في الحكومة في وزارات الاتصالات والطاقة ووزارة الخارجية والمغتربين، حيث إن «الفساد الممنهج، المتمثّل في باسيل، ساعد على تآكل الأساس لحكومة فعّالة تخدم الشعب اللبناني»، بشهادة الصفقات والسمسرات وتعيين المحسوبين والأزلام والفاسدين في الإدارة والمؤسسات.
على أن حدثاً بهذه البشرى والتفاؤل والدلالات لا ينبغي أن يمرّ من دون تسجيل الترحيب به، والتعويل عليه، ووضعه في سياقه الداخلي المناسب في لحظة مأساوية يتعمق فيها إفلاس الدولة وانهيارها بسبب باسيل وأمثاله. عمقُ الأزمة وفظاعتها وتشعّبها يفترضُ التنويه والتعويل على القرار الأميركي وعدم الاستهانة بأي مساعدة خارجية تُحيي الأمل بالمحاسبة واستعادة الأموال المنهوبة والتغيير نحو حكم رشيد وحوكمة مسؤولة، ذلك أنه، ولأسباب عديدة جداً، التغيير من الداخل يبدو شبه مستحيل لانسداد أبوابه، لناحية تواطؤ المنظومة على النهب المقونن أولاً، ولسيطرتها ثانياً على الدولة العميقة وعلى الأجهزة والمؤسسات، وكل ذلك يجعل من التعويل على عصا العقوبات وملاحقة الفساد والفاسدين، خصوصاً وأن أجزاء كبيرة مما تمّ نهبه في لبنان من قروض وهبات ومساعدات هي أموال دافعي ضرائب تمّ رصدها لتمويل مشاريع محددة وليس لإثراء سياسيين فاسدين وعائلاتهم، وعليه أيّ خطوة تدعم هذا التوجه تعني مباشرة دعم مساعي وتطلعات الشعب اللبناني نحو دولة سيدة وعادلة وشفّافة ونظيفة. وهذا يتلاقى مع كلام وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين بأن الخطوة الأميركية «توضح أن الولايات المتحدة تدعم الشعب اللبناني في مطالبته بالإصلاح والمساءلة.. فلبنان قد عانى طويلا من الفساد وسوء الإدارة على يد سماسرة السلطة، الذي يعملون من أجل مصالحهم الخاصة على حساب اللبنانيين».
باسيل الرمز
في المضبطة الأميركية بحق باسيل، الكثير الكثير الذي يكاد يكون معروفاً لغالبية اللبنانيين منذ سنين، لكن ثقافة تجاوز الدستور، وتقاسم الحصص، وتعطيل البلد من أجل الصهر كانت – وما تزال – تحول دون الذهاب نحو فضح هؤلاء، ولا يهم أبداً الهروب إلى الأمام من خلال الارتماء بأحضان الكلام الطائفي المكرر، والشعبويات الفارغة، والمظلوميات الكاذبة، إن استخدام الدين والمنطق الطائفي شماعة لتغطية الفساد والسرقات والمصالح الشخصية وتدمير سيادة البلد ونهب خيراته لا تمرّ أمام مآسي اللبنانيين وويلاتهم… هو تضليل هشّ بات اللبنانيون يعرفونه جيداً، وما عاد ينطلي على أحد في الداخل أو الخارج.
للتذكير؛ نَظّرَ جبران باسيل مرةً لمحطة عالمية رصينة قائلاً: «ربما علينا أن نُعلّم واشنطن ولندن كيف يديرون البلاد بدون موازنة».. هو خبير فعلاً في هذه التجربة الرائدة، وفي كيفية وقف العمل بالخطط لمصلحة الارتجال والانقلاب على القرارات الحكومية، وفي كيفية بناء السدود المثقوبة، وفي أصول صرف 45 مليار دولار على قطاع الكهرباء من دون وجود أثر للتيار!
عون والاستحقاق الصعب
الأخطر، أن هذا العهد البائس، استنفد كل زخمه في رفع باسيل والدفاع عنه وتغطية تجاوزاته، ووضع كل امكانات الدولة وقدرة التعطيل لرفعه. خسرَ اللبنانيون أمنهم واقتصادهم ومدخراتهم وسمعتهم في العالم في ظل هذا العهد الذي يصرّ رمزه على تحدّي إرادة اللبنانيين ومشاعرهم كرمى للصهر المعجزة. الطريف أن الرئيس عون طلب الحصول على الأدلة والمستندات التي دفعت وزارة الخزانة الأميركية إلى توجيه الاتهامات لباسيل، والأجمل، بل الأروع «ضرورة تسليم المستندات إلى القضاء اللبناني لاتخاذ الإجراءات اللازمة في حال توافر أي معطيات».. نعم ففتح ملفات الفساد وحسمها واستعادة الأموال المنهوبة في لبنان وبواسطة السلطات المحلية «على قفا مين يشيل» في بلد الشفافية والنزاهة!!
سبق لعون، قبل فترة وجيزة، أن «تحدى العالم كله، وأجهز مخابراته أن يثبت أن فرداً من عائلته متورط بالفساد».. وإن حصل فإنه مستعد لأن يترك الرئاسة. فخامة الرئيس فساد صهركم ليس بحاجة إلى أدلة، ماذا يعني أن تُعطّل البلاد ويُخنق الدستور وتُحتجز الحكومات ويُزرع الأزلام في الإدارات، وتُسخّر أجهزة الدولة وماليتها العامة في صالونات مطارات العالم، وتقرّ المليارات بشكل غير شفاف كرمى لعيون صفقاته؟
فخامة الرئيس، الأجدى أن يقال إن هذه العقوبات تعني كل من حوّل لبنان لدولة تدار بذهنية الفساد والزبائنية والمحاصصات، وهي تستهدف كلّ من حوّل الدولة فيه إلى دولة فاشلة ومعزولة وساقطة ومنبوذة ومفلسة، وهنا يستوي في الأمر باسيل، ومن سبقوه ومن سيلحقوه قريباً.
الثورة معنيّة أيضاً
على أن الأهم، هو أن تكون العقوبات الأميركية على باسيل، التي تأخرت سنة كاملة، بداية لمسار لا ينبغي أن يتوقف، وعلى الثورة أن تواكبه داخلياً من خلال استكمال إعداد ملفات الفساد في كل القطاعات العامة التي مثّلت لباسيل وأمثاله ثقوباً سوداء لسوء استخدام المناصب، واستغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، ومراكمة الثروات، وأن تشرع بتحضير دعاوى أمام القضاء اللبناني والقضاء الدولي لملاحقة كل العقود الحكومية المشبوهة والصفقات والسمسرات، تماماً كالمساعي القائمة لإحالة تفجير المرفأ الإرهابي إلى العدالة الدولية.
تثبتُ التطورات يوماً بعد آخر، كم كان حَدسُ اللبنانيين صادقاً يوم خرجوا في 17 تشرين أول إلى الساحات والشوارع رفضاً لاستمرار خطف البلد وارتهان سيادته.. كم كانت تلك الأهزوجات العفوية «كلن يعني كلن» و»هيلا هيلا هو» صائبة وشفّافة، والعودة إليها الآن تعني العودة الى الوضوح والصواب. المطلوب الإفادة من أي جهد يعرّي المنظومة المتسلّطة، ويفضح ممارساتها، وصولاً لإدانتها ومحاسبتها. معاقبة باسيل، ومن سبقه ومن سيليه، تعني معاقبة كل من فكّر بمصالحه الشخصية أو العائلية ولم يفكّر بمصلحة اللبنانيين. وبانتظار المزيد من الأسماء، وأكثر من أي وقت مضى، سنحاسبكم.