IMLebanon

حسِّن خطّك يا جبران

 

لا يكفي أن يردّ رئيس حزب “التيّار الوطني الحر” المهندس جبران باسيل على العقوبات الأميركية التي فُرضت عليه، بأنّه لا يتلقّى أوامر من الخارج ولا يمكن تحريكه بالريموت كونترول. ولا يكفي أن يعلن أنّه رفض المساومة على العلاقة مع “حزب الله” وفكّ التحالف معه. ولا يكفي أن يردّد بعض من معه في “التيّار” هذه المقولات كي يظهر أنه يستطيع أن يتجاوز القرار الأميركي الذي يمكن أن يؤدّي إلى خروجه من المعادلة السياسية نهائياً.

 

لم تبدأ العلاقة بين “التيّار الوطني الحرّ” و”حزب الله” في 6 شباط 2006 تاريخ توقيع ورقة التفاهم بين رئيس “التيار” العماد ميشال عون وأمين عام “الحزب” السيّد حسن نصرالله. قبل ذلك التاريخ كانت هناك محطّات كثيرة بينهما وبعده كانت هناك محطّات، تقلّبت فيها العلاقة بين التخوين والتوجّس والإعتراف بالإختلاف والوفاء بالوعد والعهد وتحمّل أخطاء الآخر. ولكن ما جمعته المصالح المشتركة لم تفرّقه الإختلافات. كأنّ هذا التفاهم بقي صامداً لأنّه يعيش على قاعدة “إحمِني أَحميك” وحاجة كل منهما إلى الآخر، لأنّ في فكّ هذا التفاهم وسقوطه سقوطاً للطرفين وتراجعاً في دورهما وحضورهما السياسي.

 

قبل أن يصل العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا رئيساً للحكومة العسكرية كان “حزب الله” يضعه ضمن فريق الشياطين والعملاء والخونة، الذين يتعاملون مع الأميركان وإسرائيل من سائر الموارنة والأحزاب المسيحية المنضوية تحت قبّة الجبهة اللبنانية. فميشال عون بالنسبة إلى “الحزب” لم يكن إلا جندياً في ولاية تلك الجبهة ولو كان من ضمن الجيش اللبناني. فذلك الجيش كان مع قيادته ضمن خانة العملاء أيضاً. وعندما وصل عون إلى قصر بعبدا في 23 أيلول 1988 لم تختلف نظرة “الحزب” إليه. في المقابل لم تكن نظرة عون إلى “الحزب” مختلفة. حتى ما قبل 6 شباط 2006 كان لا يزال يعتبر أنّه حزب إرهابي يخطف الرهائن والطائرات ويفجّر ويقتل، وقراره في إيران ويريد أن يلغي الدولة اللبنانية ويقيم دولته مكانها.

 

على رغم هذا الخصام العدائي اتفق “الحزب” مع عون على رفض اتفاق الطائف ولكن كلّ واحد من زاوية مختلفة. “الحزب” لأنّه كان رافضاً لكل تركيبة النظام اللبناني ويريد أن يحقّق دعوته، جعل لبنان جزءاً من الأمة الإسلامية التي مركزها في إيران وقائدها الوليّ الفقيه الإمام الخميني. والعماد عون كان يعارض الطائف لأنه لم يتمّ الإتفاق على تسميته رئيساً للجمهورية وليس لأنّه كانت هناك “فاصلة” فيه يريد تعديلها. والدليل أنه عاد ووصل إلى قصر بعبدا رئيساً للجمهورية من دون أن يغفر لنفسه جريمة الحرب التي خاضها لمنع تطبيق الإتفاق ومنع إخراجه من قصر بعبدا. كأنّ الوجود في القصر كان هدفه الأول والأخير بغضّ النظر عن الطريقة التي يصل فيها. ومن المفارقات أنّ “حزب الله” الذي كان ضدّ بقائه في قصر بعبدا لأنّه كان لا يزال يعتبره جزءاً من منظومة العملاء والجواسيس، هو الذي سهّل له طريق العودة إلى قصر بعبدا تحت عباءته. بطبيعة الحال ليس “حزب الله” هو الذي تغيّر.

 

صحيح أن خلافات وعداءات كانت تفرق بين “الحزب” والعماد عون قبل العام 1990 ولكنّ ما جمعهما هو الحرب التي خاضها “الحزب” في تلك المرحلة لإلغاء حركة “أمل” والقبض على القرار الشيعي، والحرب التي خاضها العماد عون لإلغاء “القوات اللبنانية” والسيطرة على القرار في المناطق الشرقية. دامت الحربان من العام 1988 حتى العام 1990. انتهت حرب العماد عون بإبعاده إلى فرنسا وحرب “حزب الله” بالتفاهم بين النظامين السوري والإيراني كي يبقى السلاح بيد “حزب الله” وحده.

 

تفاهم الضرورة

 

قبل عودة العماد عون من باريس في 7 أيّار 2005 نتيجة ثورة 14 آذار على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حُكي عن اتفاق تمّ بينه وبين النظام السوري ورئيس الجمهورية وقتها أميل لحود من أجل ألا يتحالف في الإنتخابات مع 14 آذار، وأن يتمّ تنظيف سجلّه العدلي وإسقاط الدعاوى المرفوعة ضدّه. في ذلك الإتفاق لم يظهر أن “حزب الله” كان جزءاً منه، ولذلك كان “الحزب” لا يزال يخشى العماد عون ويتوجّس من مواقفه التي لم تظهر أنه كان غيّر نظرته تجاهه. الأشهر التي تلت انتخابات 2005 النيابية قرّبت المسافة بين عون و”الحزب” حتى كان اللقاء في 6 شباط في كنيسة مار مخايل. كان عون يريد أن تبايعه قوى 14 آذار قائداً ورمزاً ورئيساً للجمهورية وزعيماً وعندما لم يحصل له ذلك ارتدّ عليها. وكان “حزب الله” يخشى أن يطوّقه فوز 14 آذار بالأغلبية النيابية بعد خروج جيش النظام السوري من لبنان، ووجد أنّ التفاهم مع عون يمكن أن يفكّ عنه الحصار من أجل أن يتجاوز المرحلة الصعبة. وهذا ما حصل. إتفاق مار مخايل كان نتيجة الحاجة المشتركة لتأمين المصلحة المشتركة. كان “حزب الله” يريد ألاّ يكتمل الحصار عليه. فالسنة والدروز والمسيحيون، ومعهم عون، كانوا في الجهة المواجهة له. وكان سحب عون من هذا الصفّ يؤمن له غطاء جيّداً. وعون لم يجد متسعاً لإعلان قيادته لـ14 آذار ورأى أن التفاهم مع “حزب الله” يؤمّن له البديل. من هنا كان تفاهم مار مخايل بغضّ النظر عن الحبر الذي كتب فيه. وأهمية استمرار هذا التفاهم وعدم سقوطه تأتي من خلفية أن الأساس الذي قام عليه بقي قائماً. ولذلك إنّ فكّ هذا التفاهم سيعيد الطرفين فيه إلى ما قبل العام 2005.

 

لقد راهن “حزب الله” على اختراق العماد عون للساحة المسيحية في شكل خاص. هذا الإختراق أمّن له التغطية الدائمة وهو الذي كان يستدعي أن يتجاوز “الحزب” كل المآخذ على ما يقوم به “التيار”. ولذلك باتت مصلحته استراتيجية في أن يبقى ممسكاً بقرار “التيار” من خلال هذا التحالف، لأن “التيار” بدوره كان يرى أن فكّ هذا التحالف سيسقطه في تركيبة السلطة لأنّه لا يمكنه أن يتّكِل على استمرار شعبيته. ومن هنا استفاد “التيار” من تمسك “حزب الله” به ليتمثّل في الحكومات السابقة ومن خلال حقائب محدّدة ومن خلال الوزير جبران باسيل تحديداً، كي يؤمّن لـ”التيار” حضوره السياسي. ومن هذه الخلفية كان تمسّك “الحزب” بترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية حتى لو استمرّ الفراغ أعواماً طويلة طالما أنّه لا يأمن لرئيس غيره، وطالما أن الأغلبية النيابية المكوّنة في العام 2009 بقيت لمصلحة 14 آذار.

 

لم يكتف “الحزب” بخوض معركة انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، بل كان مساهماً في مسألة من يخلف عون في رئاسة “التيّار الوطني الحرّ”. اختيار عون لصهره جبران باسيل وتزكيته خلفاً له في رئاسة “التيار” في العام 2015 قبل أن يحين موعد اعتلائه سدّة قصر بعبدا، لم يكن بعيداً من هذا المنطق. المعادلة كانت أن يخلف باسيل عون في رئاسة “التيار” ثم في رئاسة الجمهورية ويؤمّن بالتالي استمرار التحالف مع “حزب الله” والغطاء الذي يشكّله له في صراعه العالمي، وخصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية. كان “الحزب” يتّكل على أن “التيّار” سيبقى محتفظاً بالأكثرية النيابية في الشارع المسيحي، ولكنّ هذا الرهان بدأ بالسقوط بعد ثورة 17 تشرين التي وقف الحزب فوراً ضدّها وتصدّى لها، مع أنّها لم تعلن أنّها ضده وضد سلاحه. ولكنّه في المقابل لم يستطع أن يحول دون سقوط صورة باسيل و”التيّار” والعهد تحت شعارات الفشل والفساد. يخشى “حزب الله” اليوم أن يفقد باسيل الأكثرية ومقولة أنّه الأقوى في طائفته، ولذلك يحول دون خروجه من السلطة ويرفض أيّ حديث عن انتخابات نيابية مبكرة، وربّما ستكون له مصلحة في منع حصول الإنتخابات النيابية في موعدها في ربيع العام 2022، قبل ستة أشهر من موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لأنّه لن يضمن أن يحصل باسيل و”التيّار” على الأكثرية وبالتالي ستكون هذه الإنتخابات مدخلاً إلى استبعاده عن سباق الرئاسة، وفقاً للقاعدة التي تمسّك بها من أجل وصول عون إلى بعبدا، وهي أن يكون المنصب من نصيب الأقوى في طائفته. إذا سقطت نظرية الأقوى يسقط تفاهم مار مخايل لأنّه لا يعود يسمح لـ”التيار” بتأمين الغطاء لـ”حزب الله”.

 

باسيل بعد العقوبة

 

بعد العقوبات الأميركية على باسيل بات يتساوى مع “حزب الله” في المسار والمصير. يسقطان معاً لأنهما لا يمكنهما أن ينتصرا لا معاً ولا كلّ لوحده في الحرب المفتوحة ضدهما. “الحزب” يعرف ما ينتظره لأنه يعيش مع العقوبات منذ أعوام طويلة أمّا باسيل فلا يمكنه أن ينجو منها. على الأقلّ قطعت أمامه طريق خلافة عمّه وأسقطت شعار “باسيل بعد عمّو” وهي تهدّد مصير “التيار” كتيار. العقوبات ضده وضعته مع “التيار” أمام المصير نفسه ما لم يتدارك المسألة ويعدّل من مساراته وسياساته، وهي فرصة قد لا تكون متاحة له طالما أن العقوبات قد سبقت. فداخل “التيار” هناك حالة صامتة وحالة شامتة وحالة معترضة على إدارة باسيل يمكن أن تعبّر عن نفسها، وهي أكبر من الحالة المتضامنة معه والمزايدة على القاعدة نفسها وادعاء المظلومية و”أنّه مستهدف لأنه يحمل صليب المسيحيين في الشرق”. أراد باسيل أن يجمع في سياسته بين العلاقة مع “حزب الله” والعلاقة مع الأميركيين. ربّما أراد أن يستفيد من خلال بيع بعض المواقف للأميركيين والبعض الآخر لـ”الحزب”. ولكن يبدو أن اللعبة انتهت. طالما قيل له “حسّن خطّك يا جبران”. ولكنّه طالما اعتقد أن خطّه صحيح وأن الأستاذ لا يجيد القراءة. تعب كثيراً ولكنّه في النهاية حصل على علامة صفر على الخطّ وعلى السياسة.