ليست المسألة متعلقة بتهمة الهوس الرئاسي عند ميشال عون. ولا بطبيعة الصدام السياسي لدى جبران باسيل. القضية تبدأ في عمقها من سؤال: ما هي آلة الحساب (أو كالكولاتريس) الوحيدة للشرعية، بحسب ما ينص عليه دستور لبنان؟
فلنبدأ أولاً بالأسئلة المسلّمات: هل تريدون بقاء لبنان كما هو؟ أم ثمة أوهام لدى البعض بتطييره؟!
التوقيت يبدو ملائماً ربما، قبل أربعة أعوام من مئوية لبنان الكبير، للعودة بتخرّصات من نوع لبنان الأصغر، أو اللالبنان الأكبر، سورياً أو عروبياً أو إسلاموياً حتى … إذا ما نفينا تلك المشاريع الانتحارية، يجب الانتقال إلى سؤال مسلّمة ثانية: هل تريدون لبنان كما رسا على صيغة الدستور الحالي المنبثق من وثيقة الوفاق الوطني؟ أم لا؟ أيضاً ههنا التوقيت ملائم. فالمحيط كله في أتون حروب بدأت ولما تنته. وأي تغيير في دستورنا، يحتاج إلى مئة ألف قتيل على الأقل. فإذا كان هناك من يريد تغييره، فعليه أن يبدأ فوراً. عله يستفيد من الإدماغ والإدماج بين قتلانا وقتلى الحروب المحيطة، ليكتشف بعد عقد من الدم، أن ما حققه لا يتعدى سطراً او عبارة…
إذا كان ما سبق مرفوضاً ومكروهاً و»ملعوناً»، عندها فلنسلم أن البحث في أوضاعنا وأزماتنا ومآزقنا، ينطلق من دستورنا الحالي ومن وثيقته المؤسسة. فلنعد إليه إذن ولنعد قراءته: من أين تأتي الشرعية في نظامنا بحسب الدستور؟ الجواب واضح: من الشعب. فهو مصدر السلطات. لنتفق على هذه القاعدة الأولى إذن. مصدر الشرعية هو الشعب. لا الثروة، طبيعية أم مشبوهة. ولا القوة ولا حتى فائضها ولا العنف ولا العسف ولا البطر. ولا الخارج وموازينه. ولا إخراج القيد العائلي ولا الدم ولا القدرة عليه. ولا نمط التافهين في إسباغ صورة الأسطورة على كل عابر سبيل في مركز ما في لحظة ما… الشعب وحده مصدر الشرعية.
سؤال ثان، بحسب دستورنا نفسه: ما الذي يسقط هذه الشرعية؟ في الدستور كلام كثير عن حالات سقوط الحكومة. وعن محاسبة أي مسؤول، من وزير إلى رئيس. كما عن كيفيات تداول السلطة في كل مؤسسة. لكن في دستورنا كله، ثمة فقرة واحدة قاطعة، تحدد كيف تسقط الشرعية عن أي سلطة. إنها تلك الفقرة «ي» الأخيرة والشهيرة من المقدمة الميثاقية للدستور، التي تجزم وتقطع بأن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»… لكن في المقابل، ما هو ميثاق العيش المشترك؟ هل هو ما كتبه تقي الدين الصلح قبل عقود؟ هل هو ما دبّجه ذات يوم يوسف السودا تحت هذا العنوان؟ هل هو عقد اجتماعي غير مكتوب، أو حتى عرف محفوظ في الصدور، يجري تأويله بحسب الحفاظ؟ أو هو مجرد نفحة أدبية عاطفية أو حتى كذبة شعبوية أو تسويغ إنشائي لشبق سلطوي رومانسي؟ هل هو دم رفيق الحريري، أم مقاومة اسرائيل، أم محاربة إرهاب، أم أي عنوان لاحق قد يستجد أو يطرأ؟
بالعودة كذلك إلى نص الدستور نفسه، لا تعريف ولا تحديد ولا توضيح لمفهوم ميثاق العيش المشترك هذا. رغم وظيفته العليا التي أناطها به الدستور. أن يكون الحالة الوحيدة التي تسقط أي شرعية عن أي سلطة. لكن ثمة عبارة في هذا الدستور تشي بمضمون الميثاق. عبارة واحدة لا سواها. هي تلك الكلمات في المادة 24 منه، المدرجة ضمن الفقرة «أ» منها، عند الحديث عن تكوين المجلس النيابي. كلمات تقول: «التساوي بين المسيحيين والمسلمين». هذا هو إذن جوهر ميثاق العيش المشترك كما أراده الدستور. تكتشف أن معادلته واضحة جلية. حتى أنها حسابية رقمية، «ديجيتال». ليس الميثاق إذن شعراً ولا زجلاً ولا صليباً وهلالاً ولا قبة ومئذنة ولا أسقفاً ومفتياً ولا غيرها من الصور الفارغة. إنه معادلة رياضية واضحة: التساوي. والمقصود فعلاً، كما هو محسوم بحسب النص، التساوي بين جماعتين. بين طائفتين. لا بين أفراد منهما. ليس الميثاق إذن هو أن يكون مجلس النواب متساوياً بين 64 مسيحياً ومثلهم من المسلمين. بل هو التساوي بين كل المسيحيين وكل المسلمين. هكذا يقول النص. وهكذا هو الميثاق. وهكذا تسقط كل شرعية تخالف هذه القاعدة.
لكن، ما هي الآلية التي تسمح بتجسيد معادلة «التساوي» هذه، انطلاقاً من كون الشعب هو مصدر السلطات؟ الجواب بسيط: قانون الانتخاب. فإحدى وظائف هذا القانون، هي تكريس هذا التساوي ورفعه من إرادة الناخب إلى مجلس النواب، بشكل دقيق عادل منصف وصحيح. بحيث يأتي المجلس تعبيراً عن إرادات الناس، كما عن التساوي بين «الناسين» في نظامنا المتخلف. بعد المجلس، تتشكل الحكومة وفق المعادلة نفسها والمنطق الرقمي نفسه.
لا شرعية لهؤلاء؟ ليست المسألة كيدية شخصية ولا حرتقة فردية. وليس جبران باسيل ولا ميشال عون من يعلن ذلك. إنه الدستور. إنه الميثاق. ما الحل؟ صيغه موجودة: إما قانون انتخابات ميثاقي. وإما تسوية رئاسية ميثاقية، على قاعدة المعادلات الحسابية الفعلية لآخر استحقاق انتخابي. وإما الأفضل، فلنذهب إلى إلغاء الطائفية كاملة، من كل النصوص وفوراً. ونرتاح.
بين هذه الصيغ، هناك من يفكر بتكرار تجارب خادعة فاشلة. على طريقة أن الناس كفرت من الفاسدين. وهم يرفعون صوتهم بلا نتيجة. حسناً، فلنأت لهم بفاسد جديد، لكن لا يمكنهم تناوله ولا ذكر فساده ولا حتى التلميح إليه… فكرة عبقرية. فإذا كان الصراع مع الفساد من دون جدوى ينذر بثورة، فالخضوع له من دون صرخة وجع حتى، أسهل طريق إلى الانتحار… حذار!