لا حاجة للغوص كثيراً في تفاصيل كلمة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل المخصصة في معظمها للشأن الحكومي بتفاصيله الثانوية، مقارنة بحجم الأزمة الوجودية، وحواشيه الجوهرية التي قفزت إلى ضفّة تغيير النظام وبدائله، لمعرفة مصير المشاورات الحكومية. تكفي قراءة بعض سطور ردّ “تيار المستقبل” الذي بلغ فيه الاستخفاف إلى حدّ استخدام عبارة “لالا لاند” في معرض تشبيهه حالة باسيل بـ”الانكارية”، للتأكّد من أن الحكومة عالقة في خرم صراعات وحسابات… ما بعد قيامها.
يعني بالنتيجة، لم تجد المطالعة الدفاعية – الهجومية، كما الاحتمالان اللذان قدمهما باسيل كمبادرة، لا علاقة لرئيس الجمهورية ميشال عون بها وفق تأكيد رئيس “التيار الوطني الحرّ”، نفعاً، وتعامل معها رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وكأنها لم تكن!
باسيل، كما الحريري قبله الذي وظّف منبر 14 شباط لمهاجمة العهد وفريقه السياسي على خلفية الاشتباك الحكومي، لم يتقدّما أي خطوة للأمام. الاثنان يملآن الوقت بمخاطبة الجمهور، كل وفق أدبياته ومن الزاوية التي تناسبه. أما الشأن الحكومي فمتروك لساعة لم يحن بنظرهما حينها. فيما كل منهما يعتقد أنّ تلك الساعة ستكون لمصلحته، ولذا لا يستعجلان الوقت ولا التراجع أو التنازل… حتى لو انهار البلد.
ومع ذلك من المفيد الإضاءة على بعض جوانب إطلالة باسيل، ومنها على سبيل المثال:
– لا يمكن لأي فريق أن يحاجج باسيل في ما عرضه تحت عنوان وحدة المعايير. بمعنى أنّه في حال قرر رئيس الحكومة المكلّف الركون إلى القواعد الكلاسيكية في التأليف، سواء لناحية تحوّله إلى صندوق بريد يجمع ترشيحات القوى السياسية للتوزير فيضمها إلى مسودته، كما هي، أو لناحية التشاور مع هذه القوى للتفاهم على سلّة الأسماء التي تخصّ كل فريق، لا يمكن في حينها استثناء “التيار” من هذه المعادلة في حال كان الحريري بحاجة إلى أصوات “تكتل لبنان القوي” لتكوين مظلة الثقة. وبالتالي ما يسري على الثنائي الشيعي تحديداً لا بدّ أن يتعمم على غيرهما من القوى، وتحديداً التيار”. وهذه مسألة بديهية لن يجد الحريري من يؤيده من المسيحيين في خرقها أو السير بعكسها، وإلا سيتّهم بتجاوز “الحقوق”.
– بعد مضيّ أكثر من أربع سنوات ونيّف على عهد ميشال عون، من المستغرب ألا يكون باسيل قد أدرك بعد أنّ الرأي العام، أو حتى القوى المحلية أو الخارجية، غير مقتنع بسياسة الفصل بينه وبين رئيس الجمهورية، فيصرّ على اللجوء إلى لعبة التمايز بينهما حيناً والتماهي أحياناً أخرى، في المقابل يعمل رئيس الجمهورية على اقناع الفرنسيين للتوسّط بين الحريري وباسيل، فيما وقائع السنوات الأربع تثبت بما لا يقبل الشكّ بأنّهما جسمان برأي واحد! ومع ذلك ينهي باسيل كلمته بخلاصة تقول “لا دخل للرئيس” بمبادرته الأخيرة.
– مسألة الحقوق. استخدم باسيل ثماني مرات هذا التعبير في خطابه أمس، وهو في صلب كل المعارك السياسية التي خاضها “التيار” منذ عودة العماد ميشال عون من المنفى في العام 2005، لتكون ملاصقة لمعركة “التحرر” التي أعلنها بعد انتهاء معركة التحرير.
ولكن هل من يسأل “التيار” ما هي حقوق المسيحيين في العام 2021؟ هل هي حقيبة الطاقة؟ الثلث المعطل؟ أم وزارة الداخلية؟ هل هي في عدد الوزارات أم في نوعيتها؟ في المساواة التشاركية مع بقية القوى؟ أم في الصمود والبقاء؟ في لقمة العيش وفرصة العمل؟ في خطة إنقاذية تبقي من لا حول ولا قوة له على الهجرة؟ من أقنع باسيل أنّ الحفاظ على ما تبقى من الزعامة العونية يؤكل من كتف “فتات” الوزارات والمراكز؟ وكيف سارع لبيع كل هذه “الحقوق” مقابل اقرار القوانين الإصلاحية؟ وهل مشاركة “التيار” في الحكومة وفق معاييره ضمانة لإقرار هذه القوانين؟ الأهم من ذلك كله: كيف توظّف هذه الضوضاء حول الحقوق والمواقع طالما أنّ هذه الحكومة مسيّرة بريموت كونترول المبادرة الفرنسية ورقابتها؟
– العلاقة مع “حزب الله”: لم يمض أسبوعان على شكوى “التيار” من التفاهم مع “حزب الله” واتهمه بشكل صريح بالفشل “في مشروع بناء الدولة وسيادة القانون”، معتبراً أن “تطوير هذا التفاهم باتجاه فتح آفاق وآمال جديدة أمام اللبنانيين هو شرط لبقاء جدواه، إذ تنتفي الحاجة إليه إذا لم ينجح الملتزمون به في معركة بناء الدولة وانتصار اللبنانيين الشرفاء على حلف الفاسدين المدمّر لأي مقاومة أو نضال”، ما اضطر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله إلى الردّ بنفسه على هذا الانتقاد “الوجودي” للتفاهم الذي صار برمّته موضع سؤال من جانب العونيين، ليشير إلى أنّه “تم استخدام هذه العبارة من قبل المتربصين لهذا التفاهم، ونحن ننزعج من هذه الطريقة، ونصرّ على أنه إذا كان لدينا أيّ نقاش مع أيّ فريق نفضّل أن يكون داخلياً”.
ولكن حين تصل الموسى إلى ذقن النظام السياسي، الذي لأسباب غير مفهمومة، لم يستخدم رئيس الجمهورية موقعه ولا “التيار” سلطته السياسية والمعنوية للدعوة مع انطلاق العهد إلى طاولة حوار تناقش مصير النظام وبدائله بدلاً من ترك المتغيّرات الساخنة هي التي تفرض هذه الأجندة، يعود باسيل سريعاً إلى حضن تفاهم “مار مخايل” ليقول: “نحنا ما مننعزل ولأن “حزب الله” ما بيلعب تحت الطاولة”. يضيف “نحنا عنّا ثقة انّو “حزب الله” بيلتزم بكلمته لمّا منكون متفقين معه”، مع أنّ الخلاف بلغ حدود بناء الدولة، فأين يمكن أن يتفاهما بعد؟! ويقول باسيل أيضاً: “ما حدا من الأطراف الأساسية وقف معنا الاّ “حزب الله” وهيدا الحكي للإنصاف”. ما يعني أنّ “الحزب” لم يتخل عن “التيار” فكيف يشكو من افتراقهما في أهم معركة خاضها البرتقاليون؟