لا ندري إذا كانت سن وزير خارجيتنا الشاب، وقلة خبرته في الدبلوماسية وفي العلاقات الخارجية المعقدة، تسمح له باستيعاب العلاقة الدقيقة، والشديدة الحساسية في المعادلة التي تربط بين الاستقرار الداخلي، ومواقف لبنان من الصراعات والمحاور الإقليمية.
وأثبتت التجارب المريرة، والتي دفعت أجيال من اللبنانيين أثمانها الباهظة من سنوات حياتها، أن لبنان يكون هادئاً ومستقراً، منتعشاً ومزدهراً، بالقدر الذي يلتزم فيه بالإجماع العربي، وكلما ابتعد عن سياسة المحاور والنزاعات الإقليمية في المنطقة.
والعكس صحيح، حيث كان استقرار البلد يتعرّض للاهتزاز، والوضع الأمني للاضطراب، كلما حاول القرار اللبناني الرسمي أن يزج البلد في أتون المحاور الإقليمية المشتعلة، فيتخذ موقفاً مؤيداً لهذا الطرف ضد الآخر، وتجربة أحداث عام 1958، والتي شكلت أوّل هزة للصيغة اللبنانية، وأول تحدٍ «للمعجزة» اللبنانية، ما زالت تشكل خط إنذار واضحاً في الذاكرة الوطنية، لمخاطر التفلت اللبناني، من الإجماع العربي، أو لعواقب وتداعيات انحيازه إلى أحد محاور الصراع، حيث اختار يومها الرئيس كميل شمعون التعاون مع دول حلف بغداد، على حساب المحور الذي كان يعارض هذا المحور، وتقوده مصر عبد الناصر، فكان أن انفجر الوضع الداخلي، وبقيت أحداث ما سمّي يومذاك «ثورة 58» مشتعلة حتى اليوم الأخير من ولاية الرئيس كميل شمعون.
طبعاً، لم يُعايش وزير خارجيتنا، أحداث تلك المرحلة بتفاصيلها الدامية، نظراً لصغر سنه، ولكن من المفترض، وهو رئيس تيّار سياسي حزبي مرموق، أن يكون مُطلعاً، بما فيه الكفاية على دروس وعِبَر تلك الأحداث، بما يغنينا عن تعداد وتكرار التجارب المماثلة!
* * *
ولكن يبدو أن الوزير الهمّام لا يهتم بالمفاصل المهمة في تاريخ الوطن، بل حتى أنه يتصرّف وكأنه لا تعنيه لا مصلحة البلد ولا مصالح أكثر من نصف مليون لبناني يعيشون في السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي.
وإلا كيف نفسّر موقفه المتخاذل في الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية أمس..!!
هل يجوز أن يمتنع لبنان عن الوقوف إلى جانب دولة عربية كبيرة تدافع عن أمنها واستقرارها، وتتصدى لمحاولات التعدّي على سيادتها الوطنية في طهران ومشهد؟
هل يتحمل جبران باسيل، وتياره السياسي، مسؤولية الموقف المتحفظ من إدانة التعديات الإيرانية على السفارة السعودية والقنصلية السعودية، وما رافقها من استفزازات سافرة كانت موضع إدانة عالمية، وأممية عبر مجلس الأمن الدولي؟
هل تصوّر وزير خارجيتنا أنه يلعب في زواريب السياسة اللبنانية، عندما انفرد، وبكثير من الخفة، في اتخاذ موقف لا يُعبّر عن موقف الحكومة اللبنانية، ولا يتماهى مع إرادة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، وخاصة العاملين في الدول الخليجية؟
وهل يستطيع غداً أن يواجه أحداً من زملائه وزراء الخارجية العرب، ويطلب منهم أي موقف قد يحتاجه لبنان، لمواجهة ظروف وتعقيدات هذه المرحلة الصعبة؟
* * *
الواقع إننا أمام احتمالين، لا ثالث لهما، في محاولة تفسير الموقف المتخاذل الذي اتخذه الوزير باسيل في اجتماع مجلس الجامعة العربية أمس:
– الاحتمال الأوّل: جهل الرجل لتاريخ العلاقات اللبنانية – السعودية الممتازة ودور المملكة الداعم دائماً للشقيق الصغير: في حروبه وأزماته وملماته!
– الاحتمال الثاني: التزام باسيل بتحالف التيار العوني مع «حزب الله» ومحوره الإيراني، حتى ولو ظهر أمام زملائه العرب بأنه لا يرى إلا بعين واحدة، وأنه أسير موقف شاذ عن المجموعة العربية، ولا يُعبّر عن عروبة لبنان، ولا عن سياسة التقدير والوفاء التي يكنها لبنان للشقيقة الكبرى.
وفي مشهد محزن، تختلط فيه مشاعر المرارة مع دوافع السخرية، ينطبق على وزير خارجيتنا «الهمّام» المثل القائل: «إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإذا كنت تدري فالمصيبة أعظم»!
لأن الرجل تصرّف في موقف مفصلي، له ما بعده، وكأنه لا يدري بأن السعودية هي النصير الأوّل للبنان على مر عقود من الزمن، قبل اتفاق الطائف وبعده، قبل حرب تموز وبعدها، قبل المرحلة الحريرية في الإعمار وخلالها وبعدها.
ولا ندري كيف يستطيع باسيل أن يتجاهل أن السعودية تشكّل السوق الأكبر للمنتجات اللبنانية، وهي الدولة المانحة الأولى للبنان في مؤتمر باريس الأوّل والثاني والثالث، وهي التي حمت الليرة اللبنانية من الانهيار إبان حرب تموز، والسياح السعوديون يحتلون المرتبة الأولى عدداً وإنفاقاً وحضوراً!
لم نتكلم عن العلاقات الأخوية، ولا عن الروابط العائلية والعربية التي تجمع بين الشعبين الشقيقين، واقتصر كلامنا على لغة الأرقام والمصالح، لأنها تعني وزير خارجيتنا أكثر من غيرها، ولعلها هي الأقرب إلى أجندته الشخصية والدبلوماسية، لاعتبارات لا ضرورة للخوض فيها الآن!
* * *
جبران باسيل.. هل تدري ماذا فعلت؟
إنها ليست مجرد غلطة، تضاف إلى سجل أغلاط تيارك السياسي!