في غُمرة الحراك الشعبي في ساحاتٍ عدّة تتعدّد الشعارات التي تتناول أولويّات اللبنانيّين للخروج من عنق الزجاجة. قال البعض بأولويّة إنتخابات نيابيّة تستند الى قانون جديد، وطالب آخر بإنتخاب الرئيس أولاً لتسير الأمور بسلاسة وتنتظم حركة المؤسسات وصولاً الى إعادة تكوين السلطة سياسياً وإدارياً بكلّ المواصفات. فما هي خريطة المواقف من الطرحَين؟
بعد إهمالِ الشعارات التعجيزيّة التي نقلتها الشاشات لملء ساعات طويلة من البث المباشر من شوارع بيروت، ليس أوّلها ولا آخرها «نريد بحراً في بعلبك»، و»أطلقوا سراح ولدي من السجن»، فقد توقّفت المناقشات في الصالونات السياسية والحزبية أمام الممكن منها، وفي مقدّمها مَن يقود البلاد اليوم للخروج من مسلسل المآزق لينجو بها في طفرة المشاريع المقبلة التي تُهدّد الكيان ووحدة المؤسسات؟
تتوسَّع الآراء التي تُفرّق بين ما في الشعارات من رغبات وبين ما هو ممكن، لكنّها تُجمع على ضرورة قراءة الشارع الذي لم يعد اللجوء الى تصنيفه مسيحياً أو مسلماً، من «8 أو 14 آذار»، سهلاً. فقد ظهَرت حركات ومواقف عابرة للطوائف لتلامس الهموم المشترَكة التي تجمَع بنتائجها المخيفة المجتمعات اللبنانية بلا إستثناء. فالوجع واحد ومصادر الخوف على الحاضر والمستقبل واحدة.
من هذه الخلفيات، يمكن الدخول الى نقاش يتناول خريطة الطريق التي يمكن للّبنانيّين سلوكها خارج إدارة أيّ توجّه إقليمي أو دولي يتنازع قيادة المنطقة الى المجهول.
ففي المطابخ السياسية نقاش في أولويات ما هو مطلوب، وإن اتفق الأطراف على أنّ في ما نادى به الشارع كثيراً قابل للبحث، إلّا أنّ سؤالاً وجيهاً يُطرح: مَن هي الجهة القادرة على ترجمة هذه المطالب في ظلّ الشغور الرئاسي الذي قاد الى الشلل النيابي وما يُهدّد الحكومة في دورها كآخر المؤسسات التي تُعبّر عن وجود سلطة تدير شؤون البلاد والعباد؟
يبدو جلياً أنّ إنتخاب رئيس للجمهورية يغلب على الخيارات الأخرى، فهو الأسهل. لأنّ المجلس النيابي وعلى رغم ما يشوبه من عيوب التمثيل ومآثر التمديد، قادر على انتخاب رئيس للجمهورية بتوافق اللبنانيين على مَن يقود المرحلة إذا ما تراجعت الأطراف كافة «خطوة الى الوراء».
وعند البحث في الأثمان، كانت لفتة نظر الى ضرورة أن يلتقي اللبنانيون على رجل ثقة وسطي لا يشكل إنتصاراً لفئة على أخرى، يُرضي أكثرية اللبنانيين ولا يزعج أحداً. لكنّ ذلك يفترض منطقياً أن يقتنع القادة اللبنانيون بأنّ النصح الدولي بالعودة الى «طبخة رئاسية لبنانية» أمر يريحهم ويلزمهم أخلاقياً على الأقل. فالعالم مشغول بملفات لم يعد للبنان وجود في بعضها، وإن وجد في البعض الآخر فهو «ورقة في ملف كبير».
وعندها لن تُفسّر عودة البعض الى الداخل اللبناني كأنها رفض لإذعان الخارج، فاستثمار اللحظة الوطنية الجامعة ممكن لا بل مرغوب، ولن يلومنا أحد في حال أنجزنا هذه المهمة بوحدة وطنية شاملة لا ينفكّ الجميع يدعون اليها.
على طاولات «مجموعات إدارة الأزمات» التي تُدير النزاع في المنطقة خطط وسيناريوهات قد تطيح مصالح اللبنانيين الذين يواكبون ما تشهده المنطقة من متغيّرات بفقدان سلطة قادرة على الحضور الإقليمي والدولي – من دون أيّ مكابرة – وقد تطيح بمصالحهم إن لم تغيّر في خريطة البلاد وحدودها في لحظة من لحظات الجنون المدمّر التي تعيشها.
ولبنان، على رغم كلّ الحديث عن ضمانات دولية حيّدته عن المحيط الملتهب قد يتأثر سلباً بأيّ خطوة كبيرة تهزّ المنطقة، فيتفلّت البعض من ضوابط قائمة لتحقيق أحلام طالما راودته وينتظر اللحظة التاريخية.
وعليه، يتوسّع الحديث ليطاول شخصية الرئيس العتيد، من باب الحديث عن مفهوم الرئيس القوي ربطاً بالحديث عن كون رئيس مجلس النواب يُمثل أقوى القوى الشيعية، وأنّ رئيس الحكومة لن يدخل السرايا من دون رضى القوّة السنّية الأقوى، فلماذا يريد الجميع اختيار رئيس الجمهورية وتغييب المعايير التي تدير الساحتين السنّية والشيعية؟
وفي لقاء مع رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل، استعرض هذه المقترحات بما لها وما عليها من ملاحظات، كان جوابه بأقلّ الكلمات: «صحيحٌ أنّ الشيعة اختاروا أقوى من يُمثّلهم، والسنّة كذلك، وهم متّفقون على ما قدّموا للمؤسسات والوطن ولم نرفض.
لكنّ الواقع المسيحي مغايرٌ تماماً، وأنا لديّ رأي مختصَر في ذلك يقول: لو رفض أيّ من المسلمين مرشَحاً لرئاسة الجمهورية اتفق عليه المسيحيون لما تردّدت في طلب التقسيم فوراً». ونقطة على السطر؟!