لولا ورقة اسقطها نواب حزب الكتائب في جلسة انتخاب الرئيس، لما تذكر احد ما كان «ثورة الارز»، وتحديداً ثلاثيّها المؤسس: الرئيس سعد الحريري، النائب وليد جنبلاط، سمير جعجع. انتخب الثلاثة الرئيس ميشال عون، فيما وقف الحزب على رصيف العهد
على مرّ تاريخه، مذ دخل مجلس النواب للمرة الاولى عام 1960، كان لحزب الكتائب في انتخابات رئاسة الجمهورية مرشح يقترع له. ترشح مؤسسه بيار الجميل عام 1964 وحاز خمسة اصوات، وترشح عام 1970 وحاز عشرة اصوات.
اوصل رئيسين للجمهورية من صفوفه هما الرئيسان بشير ثم امين الجميل عام 1982، وترشح رئيسه جورج سعادة عام 1989 وانسحب. في المرات نفسها او سواها، في دورات تصويت لاحقة، يكون له مرشح آخر يقترع له ما ان يتيقن من انه فقد حظه في الفوز، كما مع الرئيس سليمان فرنجيه عام 1970 والرئيس الياس سركيس عام 1976 وصولاً الى الرئيسين رينه معوض والياس هراوي عام 1989. في استحقاق 2008، بعد انقطاع الحزب عن استحقاق 1998 لحرمانه مقعدا نيابيا، كان قد تبقى له نائب واحد هو صولانج الجميل بعد اغتيال النائبين بيار الجميل الحفيد وانطوان غانم واستقالة النائب نادر سكر من الحزب، فصوّتت للرئيس ميشال سليمان.
على مرّ التجربة تلك يترشح رئيس الحزب او يكون له مرشح يربح في الغالب، وهو يقارب الاستحقاق الرئاسي على انه «أم الصبي». في السنتين ونصف السنة من الشغور، كان الرئيس امين الجميل من غير ان يتصدر المواجهة احد المرشحين الموارنة الاربعة الذين أعدت بكركي لائحتهم على انهم الاربعة الاقوياء الملائمون والمطلوبون، قبل ان تتساقط خياراتهم تباعاً كي يستقر الحظ اخيراً على الرئيس ميشال عون. الا ان حزب الكتائب، في لحظة الاقتراع في جلسة 31 تشرين الاول، اتخذ موقفاً غير مألوف: لم يترشح الرئيس السابق للجمهورية ولا رئيس الحزب سامي الجميل وإن رمزياً، تعبيراً على دلالة الارادة كما فعل الاب والجد المؤسس عامي 1964 و1970، ولا كان للحزب مرشح يؤيده في مواجهة آخر. في اي من مرات الاستحقاقات المنقضية لم تخطر في باله الورقة البيضاء، ولا التصويت ضد المرشح للفوز. ذهب النواب الخمسة الى ظاهرة غير مألوفة في تقاليد حزبهم وإن وجد الجميل الابن رئيس الحزب ما يبررها، ووقف الى جانبه والده الرئيس السابق للجمهورية، هي التصويت لـ»ثورة الارز في خدمة لبنان». قالت حجتهما برفض التصويت لمرشح في قوى 8 آذار، اياً يكن. افصح الجميل الابن عن هذا الموقف عندما عام الى السطح احتمال انتخاب النائب سليمان فرنجيه طوال اشهر السنة الجارية، ثم سارع الى تكرار الموقف حينما ايد الرئيس سعد الحريري في 20 تشرين الاول انتخاب عون رئيساً للجمهورية.
عدم التصويت لعون ناجم عن رفض الاقتراع لمرشح في 8 آذار
عندما زار الحريري الجميل الاب والابن في بكفيا، في سياق جولاته على الزعماء والقيادات لاستمزاجها رأيها في الخيارات العالقة بين فرنجيه وعون او ثالث ما، لم يفصح عن جدية اقترابه من تأييد رئيس تكتل التغيير والاصلاح. تحدّث عن الباب الموصود الذي اضحى عليه الاستحقاق الرئاسي، ولمح الى ضرورة مناقشة خيارات مفتوحة واحتمالات اخرى واردة، أنبأت محدثيه بتفكيره في ترشيح عون، لكن من دون ان يجزم بالذهاب الى انتخابه، سوى كلامه عن سبل الخروج من المأزق.
لم يجد الحريري جواباً عن «الضمانات الوطنية والخارجية» التي سأله عنها الرئيس الجميّل لانجاح عهد في حال انتخاب عون ما دام الرجل «واضحاً في اصطفافاته السياسية التي لا يخفيها على احد». رد الحريري: «انتخابه يجعله بطبيعة الحال أباً للبنانيين جميعاً».
الا انه لم يطلب منهما الانضمام الى هذا الخيار. في وقت لاحق تحدث قريبون من عون الى الجميل الاب والابن في مسعى انضمام نواب الحزب الى تأييد انتخاب المرشح الوحيد للرئاسة. في جلسة 31 تشرين الاول ذهب حزب الكتائب الى تصويت مشابه للورقة البيضاء. بيد ان ما يعنيه هذا الموقف انه للمرة الاولى لا يتصرّف على غرار ما فعل مراراً في استحقاقات سابقة قبل اتفاق الطائف وبعده، ان يكون الى يمين الرئيس الجديد للجمهورية. كان الاستحقاقان الاكثر دلالة عامي 1964 و1970 حينما ترشح رئيس الحزب مؤسسه الجميل الجد من غير وثوقه بالفوز بالتأكيد، الا انه توخى القول ان من حق حزبه ان لا يكتفي بدعم عهد ــ اي عهد ــ بل ان يكون يوماً على رأسه. عندما جرّب الرئيس الخلف سعادة المحاولة، بعد رئاستي 1982، بدا من الصعوبة بمكان الرهان على تكرار ترؤس كتائبي الجمهورية في مرحلة امتاز بها عام 1989، هي انقلاب موازين القوى السياسية والعسكرية على السواء رأساً على عقب، ودخول سوريا بقوة في لعبة الاخلال بها.
لكن الجميل الاب خبر مغزيين رافقا انتخابه عام 1982: اولهما وصوله الى الرئاسة بشبه اجماع نيابي بنيله 77 صوتاً من 80 نائباً. سبقه الى مثله اثنان فقط الرئيس كميل شمعون بنيله 74 صوتاً من 76 مقترعاً، والرئيس شارل حلو بنيله 92 صوتاً من 99 مقترعاً. ثانيهما انه ــ بعد شقيقه الذي لم يحكم ــ اول رئيس حزبي يُنتخب للرئاسة على صورة مطابقة لانتخاب عون الذي لم يُعطَ اجماعاً مماثلاً للرئيس السابق.
من دون ان يكون في صلب قرار قيادة الحزب الذي يرأسه ابنه سامي، مكتفياً بدوره في «بيت المستقبل» في بكفيا، يقارب الرئيس الجميّل الموقف الاخير للحزب بعدم التصويت للرئيس الجديد للجمهورية بالقول: «لم يكن الموقف ضد الرئيس عون مقدار ما ارتأت قيادة الحزب ان تكون منسجمة مع خياراتها التي اعلنتها منذ اليوم الاول للاستحقاق الرئاسي، وهو انها لا تصوّت لمرشح في فريق 8 آذار. منذ البداية قلنا هذا الكلام، واعاد تأكيده رئيس الحزب وبيانات المكتب السياسي. بيد ان الحزب طوى الآن الصفحة تلك، واعلن الوقوف الى جانب الرئيس الجديد ودعمه والتمني للعهد النجاح في مهمة انتشال لبنان من المستنقع الذي يتخبط فيه. لم يكن ثمة موقفان مختلفان لحزب الكتائب من انتخاب الرئيس عون. انا أيدت خيار القيادة ووافقت على قرار لم اكن في صلب اتخاذه ولا جزءاً من الآلية الديموقراطية التي انتهت اليه. اليوم تقول المصلحة الوطنية بدعم رئيس الجمهورية وعهده، ونحن سنفعل، وابلغ اليه رئيس الحزب عندما هنأه وفي الاستشارات النيابية الملزمة هذا الموقف. عندما ينتخب رئيس للجمهورية يصبح من اجل كل لبنان ورئيس كل لبنان، وهذا ما عبّر عنه الرئيس عون. وهذا ما فعلته ايضاً على اثر انتخابي عام 1982».