IMLebanon

الجنرال والحكيم تبادلا الادوار

في عزّ الحرب اللبنانيّة كان العصب الديني يتقدّم على كثير من الإنقسامات السياسيّة والعقائديّة، والمجازر المُتبادلة على الهويّة وبحسب الإنتماء الطائفي هي خير دليل على ذلك! وفي أحد خطابات قائد «القوات اللبنانيّة» الشيخ بشير الجميّل في مطلع الثمانينات وردت عبارة «بدا تضلّ جراسنا تدقّ…» لتتحوّل إلى شعار يضرب على وتر العصب المسيحي. وإكتملت شعارات «لن نعيش ذمّيين في هذا الشرق…» مع إطلاق قائد «القوات» الأسبق الدكتور فؤاد أبو ناضر شعار «الصليب الأحمر المشطوب»، ليتمّ لاحقاً تبنّيه كعلم مرادف لعلم «القوات» بشكل زاد الصبغة الطائفيّة، قبل أن يأتي خُطاب قائد «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع بعد «إنتفاضة 15 كانون الثاني» التي أزاحت إيلي حبيقة من موقع القيادة بهدف إسقاط «الإتفاق الثلاثي»، والذي تحدّث فيه عن ضرورة تنمية القُدرات المسيحيّة «من المدفون إلى كفرشيما» كمرحلة أولى، وعن «أمن المجتمع المسيحي فوق كل إعتبار»، ليؤكّد أهمّية الوجه الديني والطائفي للصراع السياسي العسكري القائم، خاصة وأنّ قيادة «القوات» كانت مُتهمة في حينه بالعمل على إقامة «كانتون مسيحي» أو على الأقلّ لتمرير «فدراليّة» طوائف في لبنان. وفي هذا الجوّ، تحوّلت خطوة طرح شعار (مطار) «حالات حتماً» في نهاية ثمانينات القرن الماضي، والتي كانت تهدف في حينه إلى رفع الإذلال والمخاطر التي كان يتعرّض لها المسيحيّون خلال الإنتقال إلى ما يُعرف بإسم «المنطقة الغربيّة» للسفر إلى خارج لبنان، إلى رمز من رموز التقسيم. وفي تلك المرحلة بالتحديد كان العماد عون يرفع شعار (لبنان) «أكبر من أن يُبلع… أصغر من أن يُقسم» ويُنادي بالوحدة الوطنيّة ويُهاجم ويَنتقد كل محاولات التقسيم…

أمّا اليوم، فكل الوقائع تدلّ على تبادل واضح للأدوار بين «الجنرال» و»الحكيم» بغض النظر عن الدوافع، أكانت إنتخابيّة محلّية ضيّقة أم لمصالح إقليميّة مُتضاربة. فرئيس حزب «القوات اللبنانيّة» لم يعد يتكلّم أو يُمارس أيّ سياسة طائفيّة مسيحيّة ضيّقة، ويعتبر أنّ رفع «الشريك المُسلم» شعار «لبنان أوّلاً» هو إنتصار لأهداف «القوّات» الواسعة. في المُقابل، إنّ رئيس «تكتّل التغيير والإصلاح» لا يُوفّر مناسبة منذ عودته من المنفى الفرنسي إلى لبنان في 7 أيّار من العام 2005، من دون الحديث عن ضرورة إستعادة «الحقوق المسيحيّة المهدورة»، ومن دون تقديم طروحات كانت بالأمس القريب لا تجلب لمُطلقي أفكار مُشابهة من مسؤولي الأحزاب المسيحيّة سوى الإنتقاد والتخوين، ومنها «قانون الإنتخاب الأرثوذكسي» الذي يسمح لكلّ من المسيحيّين والمسلمين بانتخاب نوّابهم من دون تأثير الصوت الطائفي الآخر. وقد بلغ الأمر بالعماد عون أخيراً حد التلويح بالفدرالية ما لم يتمّ إنتخاب الأقوى مسيحياً، علماً أنّ كلمة «فدراليّة» كانت السبب وراء إطلاق حملات شعواء ضد «زعماء مسيحيّين» آخرين، من بشير الجميل وصولاً إلى سمير جعجع. فما الذي «عدا ما بدا»؟!

بحسب أوساط سياسيّة مسيحية إنّ العماد ميشال عون كان نجح في حصد نحو 70 % من أصوات المسيحيّين في إنتخابات العام 2005 النيابيّة، بمُجرّد أن لعب في حملته الإنتخابيّة آنذاك على وتر محاصرته ومحاصرة المسيحيّين من خلفه عبر «الإتفاق الرباعي» الذي جمع أحزاب السنّة والشيعة والدروز الرئيسة. وأضافت أنّه يهدف من خلال تصعيده الحالي، لاعباً على وتر إستعادة حقوق المسيحيّين، بدءاً برفع شعار «الرئيس القوي» مروراً بقانون الإنتخابات الذي يُسقط تأثير صوت الناخب المُسلم، وُصولاً إلى إستغلال الإضطهاد اللاحق بمسيحيّ الشرق الأوسط حالياً، إلى تحضير الرأي العام المسيحي لدعمه ولمؤازرته في حملاته التصعيديّة المُرتقبة في مرحلة أولى، وإلى إنتخاب اللوائح «البُرتقاليّة» في مرحلة ثانية، أي بُمجرّد الوصول إلى تنظيم الإنتخابات النيابيّة المُقبلة عاجلاً أم آجلاً.

وتابعت الأوساط السياسيّة المسيحيّة نفسها أنّ العماد عون يعلم جيّداً أنّ معركته الحاليّة تتمثّل في إستعادة الأصوات المسيحيّة التي كان خسرها في إنتخابات العام 2009، والتي تراجع فيها الدعم المسيحي له من نحو 70 % إلى أقل من 50 % من أصوات المسيحيّين. وأضافت أنّ العماد عون مُطمئن أنّ خطابه مسيحي الطابع، لا يُخسّره الأصوات المُسلمة التي تدعمه، والسبب أنّ دعمه المُطلق لمعارك ولخطاب «حزب الله» يُوفّر له غطاء الجزء الأكبر من الصوت الشيعي، ووقوفه إلى جانب «محور المقاومة» محلّياً وإقليمياً، يُوفّر له غطاء جزئيّاً من جانب الصَوتين السني والدرزي المُؤيّد لهذا الخط. ولفتت إلى أنّه من هذا المُنطلق يُركّز العماد عون معركته على كسب أكبر قدر ممكن من الصوت المسيحي، وذلك عبر دغدغة الشعور الطائفي المسيحي، خاصة وأنّ الإرهاب في المنطقة، والذي يُهدّد كل الأقليّات بما فيها المسيحيّة، يُشكّل أجواء مناسبة لشدّ العصب الطائفي. وتابعت هذه الأوساط بالقول إنّ «الجنرال» سيذهب بعيداً في حملاته، لإقتناعه بأنّه إمّا تتحقّق أهدافه، وإمّا ينجح في شدّ العصب المسيحي حوله، في أسوء الأحوال.

ورأت الأوساط نفسها، أنّ رئيس حزب «القوّات اللبنانيّة» غير قادر على مُواجهة عون إعلامياً في حفلة المُزايدات المسيحيّة في المرحلة الحالية، تقيّداً منه ببنود «إعلان النوايا» بين الطرفين من جهة، وحرصاً على علاقاته مع الطرف المُسلم، لا سيّما في الأوساط السنّية، من جهة أخرى، علماً أنّ «الحكيم» لم يتمكّن من تعزيز هذه العلاقات إلا من خلال خطاب وطني بعيد عن الطائفيّة، يُركّز على نقاط الإلتقاء السياسيّة، ويُعطي الأولويّة للمبادئ المُشتركة التي جرى رفعها ضمن تجمّع قوى «14 آذار»، بعيداً عن أيّ إعتبارات طائفيّة أو مذهبيّة ضيّقة.

وختمت الأوساط السياسيّة أنّ تبادل الأدوار بين «الجنرال» و«الحكيم» في هذه الظروف التي يشعر فيها المسيحيّون بالخطر على المصير، يصبّ في صالح الأوّل على حساب الثاني لجهة الكسب الشعبي المُرتقب في الأوساط المسيحيّة، لأنّه يبدو أنّ ظاهرة التقوقع والإنغلاق الدفاعي تُطمئن الرأي العام المسيحي أكثر في هذه المرحلة بالتحديد، من ظاهرة الإنفتاح على الآخرين التي لم يلمس مسيحيّو لبنان معها أيّ حماية تُذكر، في ظلّ الإضطهاد الذي يلقاه «إخوتهم في الدين» في الدول العربيّة في المرحلة الحالية.