انتدب الجنرال ميشال عون النائب ابراهيم كنعان ليمثله في جلسة الحوار على مائدة الرئيس نبيه بري بعدما كانت الترجيحات تشير الى أنّه سيكون هو الحاضر على الطاولة المستديرة، أسوة بالمرة الأخيرة. لكنه عاد واعتكف عن المشاركة تاركاً المهمة للنائب المتني.
خطوة لا تعني بالتقريش السياسي الا عدم رضى الرجل عما يدور من حوله، وتحديداً في عين التينة، مع أنّه أرسل أكثر من رسالة ايجابية خلال الأسبوع المنصرم، تشي بأنّه مستعد لتطرية الأجواء مع «أستاذ البرلمان» والعمل على نزع الألغام المزروعة في حقل الجلسة التشريعية، ليعيد ضخّ بعض الحياة في شرايين المجلس. وإذ بعقارب الساعة تعود الى الوراء، الى حيث زمن «النقار» والتساجل بالواسطة وبالمباشر بين الحليف وحليف الحليف، حيث يبدو أنّ ميشال عون استعاد سمات الغضب والانتقادات، وغلّبها على المناخات الإيجابية التي انتُظرت منه في الأيام الماضية.
لا يحتاج اناء العلاقة بين الرجلين لكثير من قطرات التباين والخلاف كي ينضح بما فيه، وها هي انتخابات نقابة موظفي الكازينو وجدول أعمال الجلسة التشريعية، يساهمان من جديد في تشنّج المسار الثنائي ويخربطان الوضع، المشوّه أصلاً.
عملياً، يتصرف ميشال عون على قاعدة أنّ الملف اللبناني عالق في خرم الأحداث الإقليمية المتسارعة، وقد أودِع في آخر سلّم اهتمامات دول القرار التي تضع كل ثقلها على بؤر التوتر الممتدة من سوريا الى اليمن، وتكتفي بحماية لبنان بمظلة استقرار دولية تقيه شرّ التفلت الأمني، ولو أنّ الثمن هو الشلل المطلق.
فالرئاسة يتآكلها غبار الشغور الذي جلس على كرسيها منذ 25 أيار من العام الماضي، والحكومة ممسوكة بخيط رفيع يحول دون استقالتها مع أنّها فاقدة للوعي وللسيطرة على نفسها. أما مجلس النواب فعاطل عن العمل، ولن تذهب اللعنة عنه الا اذا تصدّر قانون الانتخابات جدول أعمال جلسته التشريعية.
بالنتيجة، ثمة من يرى أنّ منطقين يتجاذبان ميشال عون:
أحدهما يدفعه الى المزيد من التشدد في حشر القوى السياسية، تلك المصنفة خصما وتلك المصنّفة في خانة الحليف، على قاعدة الضغط المضاعف لعلّها «تبج» وتفرج بالكامل، فيبقي على أبواب قصر بعبدا مقفلة بشمع المطالبة برئيس قوي بحيثيته الشعبية، ويترك تمام سلام وحيداً محتاراً في قراره بين الاستقالة والاستسلام لغنج المعتكفين تحت عنوان رفض المشاركة في أي جلسة حكومية قبل اقرار التعيينات العسكرية، ويزيد من منسوب البنج الذي حُقن به مجلس النواب لحظة التمديد لنفسه.
إذاً هو التعطيل الشامل. يعرف الجنرال جيداً أنه وراء هذا الشلل، بطريقة مباشرة أو بالمواربة. يقول للآخرين: المبادرة بين يديّ والطابة في ملعبي، ومن يريد تغيير قواعد اللعبة، فليأتِ للتفاهم معي.
بمعنى آخر، صار الرجل متيقناً أنّه لم يبق أمامه الا حدفة واحدة يسجلها في مرمى الآخرين: تكبير حجر الأزمة، وهو وحده الذي سيأتي بالحل الشامل. لم تعد تنفع الترقيعات الجانبية ولا التفاهمات الثنائية، ولا بدّ من سلّة اتفاقات تشمل رئاسة الجمهورية، قانون الانتخابات، الحكومة ورئاستها، بما في ذلك قيادة الجيش. لا يمكن الوصول الى هذه الصياغة المتكاملة للحلول اذا لم يعمم الشلل على كل المؤسسات الدستورية، وتصبح الحاجة الى نفضة سياسية ضرورية. ولهذا يرفع من «دوز» الضغط.
وما دام زمن التسوية اللبنانية لم يحن بعد في ضوء التعقيدات التي لا تزال تعتري الملف السوري، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالملف اللبناني، فإنّ ميشال عون يحاول رفع سقوف الأزمة اللبنانية في محاولة منه لفرض التسوية، قبل أوانها معتقدا أنّ دفع كرة الثلج الى التدحرج سيدفع مرتبة المسألة اللبنانية الى الأمام، ويجذب قسرياً الحلّ.
أما المنطق الثاني فيبدو أكثر ليونة. اذ يرى أنّه مهما اشتدّ عصب الأزمة اللبنانية وزادت حدّتها، فهذا لن يغيّر من المشهد بالأساس. عملياً، أرسل سعد الحريري أكثر من إشارة توحي بأنه مستعد لعقد تسوية مع الجنرال، فيما يقرّ الأخير أنّ «الشيخ» لم يكن يناور، لا بل هو مستعجل لعقد اتفاق يعيده الى بيروت، ومن بعدها الى القصر الحكومي. ما يعني أن الرجل تملأه الرغبة في التفاهم.
وقد أثبتت الأحداث أن رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» أتعب القوى السياسية نتيجة سياسة الممانعة والتعطيل التي انتهجها وأفقدها زمام السيطرة لدرجة التهديد بقلب الطاولة رأساً على عقب. لكن هذه الاستراتيجية لم تدفع بهم الى رفع أيديهم استسلاماً، حتى لو أرادوا ذلك، فلن يفعلوها ما دام الضوء الأخضر الإقليمي لم يُعط للمسار اللبناني.
إذاً، يربط جنرال الرابية مصير الرئاسة والحكومة ومجلس النواب، بثلاثة ملفات أساسية: انتخابه رئيساً للجمهورية، تغيير قانون الانتخابات، وتسمية قائد جديد للجيش.
ولكنه، كما البقية، يعرفون جيداً أنّ الملفات الثلاثة تتسم بأهمية قصوى تجعلها متصلة ببعضها البعض حيث يصعب فكفكة تلك السلسلة، ولن يصار بالتالي الى بتّ أي منها من دون سلّة تفاهمات شاملة تعيد النبض الى المؤسسات الدستوية اللبنانية.
حتى أنّ الإصرار على ربط مصير الجلسة التشريعية بقانون الانتخابات، فيه شيء من «الدونكيشوتية» السياسية، كما يرى مسيحيون غير حزبيين. فـ «القوات اللبنانية» التي أخذت «التيار الوطني الحر» الى هذا المكان مقابل رفع قانون استعادة الجنسية الى مرتبــة تشريع الضرورة، كان حرّي بها أن تقنع حلفاءها بصيغة مشتركة لقانون الانتخابات، أو أن تتفق مع العونيين على صيغة موحدة، قبل حشر نبيه بري.
فلا «تيار المستقبل» مستعد للقبول بالنظام النسبي بعد تبرئه منه، ولا «تكتل التغيير والاصلاح» يقبل بالصيغة المختلطة بين الأكثري والنسبي. كما أنّ جميعهم يدركون من دون أن يقروا، أنّ الاتفاق على قانون الانتخابات لن يحصل بمعزل عن تسوية كبيرة.
هكذا، يبدو التعطيل الشامل أشبه بجلد الذات، كما يرى مسيحيون غير حزبيين، لأنّ الضغط لم يأت بنتيجته، ما دام أنّه لا يقدم ولا يؤخر في المسار السياسي، إذ أثبتت الأحداث منذ وقوع الشغور الرئاسي، أنّ اشتداد الأزمة اللبنانية لم ولن يسرّع في حلها، لأنّ العقدة ليست في الداخل اللبناني، وانما خارجه، وبالتالي، حين يأتي زمانها، لن يحدث إقفال مجلس النواب أو تعطيل الحكومة أي فارق في النتائج، لأنّ موازين القوى الاقليمية هي التي ستحدث كل الفارق.
هكذا، يصبح التساهل مع عمل البرلمان والحكومة منطقياً، لا بل ضرورياً لتسيير شؤون الناس، حتى لو اعتبر تنازلاً من جانب ميشال عون، وهو ليس كذلك، لأن مطالبه تتخطى هاتين المسألتين الى ما هو أبعد من ذلك.
فأي مفترق سيختار الجنرال لما تبقى من عمر الشغور اذا ما طال كثيراً؟