شهدت الساحة اللبنانية في الساعات والأيّام القليلة الماضية، ولا تزال، سلسلة من الوساطات التي تهدف إلى تخفيف أجواء الإحتقان، وإلى محاولة إيجاد حلول لمجموعة المشاكل العالقة، وذلك بهدف وقف التدهور التصاعدي المُتوقّع بفعل المواقف «العَونيّة» العالية السقف. ويُمكن في هذا السياق، تعداد وساطة «القوات اللبنانيّة» التي تُحاول تقريب وجهات النظر بين «التيّار الوطني الحُر» و«تيّار المُستقبل»، ووساطة «حزب الله» الذي يُحاول ترميم العلاقة بين رئيس «تكتّل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، ووساطة رئيس »جبهة النضال الوطني» وليد جنبلاط الذي يُحاول إيجاد مخارج وسطيّة تُحاول تمرير الظرف الراهن بأقلّ ضرر وتصعيد ممكنين. فهل من المُتوقّع أن تخلص هذه الوساطات، وغيرها من جهود التهدئة أيضاً، إلى نهايات سعيدة؟
بحسب أوساط سياسيّة مُطلعة ومُصنّفة وسطيّة في ظلّ الإنقسام السياسي السائد في لبنان منذ عقد من الزمن حتى اليوم، إنّه وبغض النظر عن الأبعاد المحلّية والإقليميّة العميقة للخلافات، فإنّ المشاكل القائمة حالياً والتي من شأن حلّها إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل أشهر، أي إلى مرحلة الحدّ الدنى من دوران عجلة الدولة بدلاً من الشلل الكامل كما هي الحال اليوم، تُختصر بثلاثة رئيسة.
وأوضحت أنّ المشكلة الأولى تكمن في قضية آلية العمل الحكومي والتصويت داخل مجلس الوزراء حيث يُطالب «التيّار الوطني الحُرّ» بالعودة إلى آليّة العمل التي طبّقتها حكومة الرئيس تمّام سلام في أولى أشهر عملها، أي ضرورة الحصول على الإجماع لتمرير أيّ قرار، إنطلاقاً من مبدأ أن صلاحيّات رئيس الجمهورية غير الموجود لا تُجزّأ وتنتقل بالتالي حُكماً إلى مجلس الوزراء بكامل أعضائه. وذكّرت الأوساط السياسيّة بأنّ هذه الآليّة إنعكست شللاً حُكومياً عمليّاً، الأمر الذي دفع مجلس الوزراء إلى إبتداع آليّة ثانية تتمثّل في تصويت الأكثريّة لتمرير القرارات شرط عدم تجاوز رأي أيّ من المكوّنات السياسيّة الأساسيّة. وتابعت الأوساط عينها بالتذكير إنّ هذه الآليّة الثانية إصطدمت بحائط مسدود أيضاً، حيث جرى إتهام رئيس الحكومة بتجاوز صلاحيّاته في تنفيذها، وكذلك بعدم الوقوف على آراء مختلف الكتل الأساسيّة عند طرح المواضيع الحسّاسة والخلافيّة. وتوقّعت هذه الأوساط أن يسعى مجلس الوزراء في جلسته المُرتقبة خلال الأسبوع المقبل إلى إيجاد تسوية تُوازن بين ضرورة التوافق بالإجماع في بعض المواضيع والتوافق بالأكثريّة في أخرى، في مزيج لغوي ونظري بين الآليّتين السابقتين اللتين فشلت السلطة الساسيّة في تأمين سير عجلة الدولة من خلالهما. وتوقّعت الأوساط نفسها أنّ يتم في الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء محاولة تسويق آلية عمل ثالثة تقضي بتقسيم مواضيع البحث بين مهمّة وتستوجب إجماعاً سياسياً وميثاقياً، وثانوية وتستوجب موافقة الأكثرية الوزاريّة فقط، شرط عدم قيام أي طرف باستخدام حق النقض (الفيتو) لوقف أي قرار أو مشروع.
وأضافت الأوساط السياسيّة المُطلعة نفسها أنّ المشكلة الثانية تتمثّل في قضيّة فتح دورة إستثنائيّة لمجلس النوّاب، والتي تُواجه أنواعاً مختلفة من المقاطعات، تبدأ برفض بعض الجهات السياسيّة عقد دورة قبل إنتخاب رئيس للجمهوريّة، مروراً بنظريّة ثانية تقضي بأن يكتفي النوّاب بمبدأ «تشريع الضرورة»، وصولاً إلى تضارب النظرة بين الأفرقاء السياسيّين إلى المواضيع المُلحّة الواجب تقديمها على سواها. ورأت الأوساط السياسيّة المُستقلّة أنّه من الممكن إيجاد حلّ لهذه المُشكلة من خلال الحصول على أوسع تأييد ممكن لفتح دورة إستثنائية، وذلك عبر طرح دراسة أكبر عدد من المواضيع والتشريعات التي تُطالب بها القوى السياسيّة الأساسيّة، دُفعة واحدة أو خلال فترة زمنيّة مُتقاربة.
وبالنسبة إلى المُشكلة الثالثة التي تحاول الوساطات الحالية تذليلها، فهي تتمثّل – بحسب الأوساط السياسيّة المُستقلّة نفسها، في قضيّة التعيينات الأمنيّة المُرتقبة، وهي العقدة الأصعب بين العقد الثلاث التي تفرض نفسها على الوضع السياسي العام حالياً، حيث أنّ المواعيد الزمنيّة باتت ضاغطة جداً، لجهة ضرورة حلّ مسألة الفراغ المُرتقب في موقع رئاسة أركان الجيش قبل السابع من آب المقبل، وحلّ مسألة الفراغ المُرتقب في موقع قيادة الجيش قبل الثاني والعشرين من أيلول المقبل.
ولفتت الأوساط السياسيّة المُستقلّة إلى أنّ المُفارقة أنّ الآليّة التي يُطالب بها «الجنرال» وهي الإجماع لتمرير أي قرار مهم في مجلس الوزراء، سيكون «التيّار» أولى ضحاياها، عندما تصل المسألة إلى قضيّة التعيينات الأمنيّة، بحيث سيكون من السهل على خصوم العماد عون عندها إفشال وصول من يريده هذا الأخير إلى منصب قيادة الجيش وغيره من المناصب، عبر إعتماد نفس مبدأ غياب الإجماع على الإسم الذي سيتمّ طرحه. وأوضحت أنّه بمجرّد طرح مسألة التعيينات الأمنيّة لأي منصب حسّاس، سيتم إفشال الحصول على إجماع حول أي إسم يطرحه «الجنرال»، ليتمّ عندها التحجّج بمسألة الخوف من حصول فراغ وإنكشاف أمنيّين، لتمرير قرارات تمديد فترات الخدمة لكل من رئيس الأركان اللواء وليد سلمان وقائد الجيش العماد جان قهوجي، وذلك بحكم الأمر الواقع وعبر قرار من وزير الدفاع لا يعتمد آليّة تصويت مجلس الوزراء. وتوقّعت هذه الأوساط أيضاً أن يتم قطع الطريق على مُطالبة البعض بأن يتسلّم الأعلى رتبة مهام المنصب الذي يشغر بسبب إنتهاء خدمة الأصيل، إنطلاقاً من عدم جواز تغيير طائفة ومذهب «القائد المعني»، خاصة لجهة إنتقال منصب قائد الجيش من يد شخصيّة مارونية إلى شخصيّة غير مسيحيّة، ما يعني أيضاً إستغلال مطالب «الجنرال» بالحفاظ على حقوق المسيحيّين في السلطة، لكن لأهداف مُعاكسة تماماً لمطالبه!
وختمت الأوساط السياسيّة المُستقلّة أنّ العماد عون سيكتشف قريباً أنّ خصومه سيجعلون مُرشّحه لقيادة الجيش أولى ضحايا مطلب إستعادة صلاحيّات رئيس الجمهورية، الأمر الذي قد يدفعه عندها إلى مزيد من التصعيد، وعندها سيُضاف إلى لائحة خصومه غير القصيرة، المُستفيد الأوّل من تمديد فترة الخدمة، أي قائد الجيش بكل بساطة!