IMLebanon

العفو العام… يؤرق الشارع ويعرّي السلطة

 

تضمنت ورقة الاصلاحات الاقتصادية الانقاذية التي قدمها الرئيس سعد الحريري “هدية” الى الحراك الشعبي قبل تقديم استقالة الحكومة، اقتراح قانون العفو العام، البعيد كل البعد عن الاقتصاد وأزمة لبنان المالية المستفحلة. فجأة، استفاقت الطبقة السياسية على ملف نام في الدرج أشهراً، بل سنوات، فحاولت في خطوتها هذه كسب عطف بعض الفئات التي تحركت في الشارع، ولكنها سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة مع رأي عام لم “يهضم” إمرار هذا الملف “على عينك يا تاجر” لغايات سياسية تخدم أهل السلطة ولاعتبارات عدة.

ما عزّز هذا الرأي هو تراشق الاتهام بين القوى السياسية حيث حاول كل طرف “غسل يديه” من مشروع القانون هذا، رامياً الكرة في ملعب الآخرين، خصوصاً أنّ الثُغر الموجودة فيه تضرب السلطة القضائية والامنية والمجتمعية أيضاً، نظراً لحالات العفو التي يلحظها.

 

من الناحية القانونية:

فنّدت المفكرة القانونية “اقتراح القانون المعجّل المكرر لمنح عفو عام لعدد من الجرائم”، فلاحظت أنّ “السلطة السياسية استعجلت وضع صياغته النهائية بعد قيام الانتفاضة، فسجّلته كاقتراح قانون معجل مكرر، وأدخلت عليه عدداً من التنقيحات الأساسية لجهة توسيع دائرة الجرائم والجهات المستفيدة منه، وفي مقدمها “الإسلاميين وتجار ومروجي ومزارعي المخدرات”، في حين أنّ هاتين الفئتين تعدان تباعاً من جمهور تيار “المستقبل” في طرابلس وصيدا خاصة، والثنائي الشيعي في البقاع، كما هناك جماهير مستفيدة لأحزاب أخرى”.

 

ورأت أنّ “من المسائل الخطيرة جداً توسيع العفو ليشمل جرائم لم يفكر أو لم يتثبت المشرّع من وجود مبررات وجيهة لإعفائها، وأبرزها: جرائم التهرب الضريبي، والجرائم البيئية المشمولة في قوانين حماية البيئة والمياه والهواء ومعالجة النفايات والصيد والمحميات الطبيعية (وغالبية هذه الجرائم ترتبط بشكل وثيق بجرائم الفساد)، والجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والمخلّة بسير السلطة القضائية أو تلك التي تمس بالواجبات العائلية، وجرائم التهويل والاحتيال والمضاربات غير المشروعة والإفلاس الاحتيالي والغش المرتكب إضراراً بالدائنين من خلال تهريب الأموال وجرائم التعذيب مثلاً، والجرائم المشمولة في قانون ديوان المحاسبة (وجلّها قضايا فساد) وقانون حماية الحيوان”.

 

وأشارت الى أنّ “المسودة تستثني جرائم التعدي على المال العام والجرائم المخلّة بواجبات الوظيفة والإثراء غير المشروع، لكنها تعفي في المقابل عدداً كبيراً من الجرائم التي يفترض ارتكابها من القوى النافذة والمقتدرة مالياً. ومن أبرزها: الجرائم البيئية وجرائم التهويل والتهرب الضريبي وإهمال الإخبار أو ملاحقة جرائم، والجرائم المشمولة في قانون ديوان المحاسبة وإطلاق النار واقتناء الأسلحة وتصنيعها وحيازتها، والجرائم المشمولة في قانون القضاء العسكري”.

 

وشددت المفكرة في ملاحظاتها على مسألتين أساسيتين، وهما: أوّلاً “الاهتمام الفائق بجرائم المخدرات من خلال تضمين الاقتراح فقرتين تحدثتا عنه لتكرر أحياناً المعنى نفسه، بل أحياناً معاني متناقضة. فالفقرة أولاً البند (4) تتحدث عن جرائم التعاطي أو تسهيل تعاطي المخدرات أو تسهيل الحصول عليها أو ترويجها من دون أي نية ربحية أو أيضاً زراعة النباتات الممنوعة. أمّا الفقرة أولاً البند (6)، فتأتي لتكرر العفو عن هذه الجرائم من خلال الإحالة إلى المواد القانونية التي تعاقبها، مع إضافة عدد كبير من الجرائم الأخرى التي تشمل بالنتيجة القسم الأكبر والأخطر من جرائم إنتاج المخدرات والإتجار بها والترويج لها.

 

وثانياً، في البنود المتعلقة بملف “الإسلاميين”، وفيما يبدو أنّ الاقتراح يستثني منه جرائم قتل العسكريين والمدنيين إلّا في حال حصولها في إطار التشاجر (وهذا يفتح باباً للاجتهاد والتحايل)، فإنه يمنحهم تخفيضات في العقوبة بحيث تستبدل عقوبة الإعدام بجريمة السجن لمدة 25 سنة وتستبدل عقوبة السجن المؤبّد بعقوبة 20 سنة سجناً، فيما تخفض سائر العقوبات بمقدار النصف أو الثلثين (ورد الأمران في النص المقترح مما يؤشّر إلى العجلة في وضعه). كما أنه يدخل إمكانية الطعن في الأحكام، حتى المبرمة منها.

 

من الناحية السياسية:

يُضاف الى الثُغر القانونية التباس في الموقف السياسي بين الكتل التي شاركت عبر ممثليها في اللجنة الوزارية بصياغة مشروع القانون وتنقيحه، ففي حين اعتبر عضو كتلة “التنمية والتحرير” ياسين جابر أنّ “لغم” اقتراح قانون العفو “إنفجر فيه”، إستغرب “كيف يتنصّل “التيار الوطني الحرّ” من هذا القانون في حين أنّ 3 من وزرائه هم ضمن اللجنة الوزارية المكلّفة درس الموضوع ومن بينهم وزير العدل، والوزير سليم جريصاتي الذي نَصّ القانون، مؤكداً أنه عمل على إدراجه في جدول الأعمال حين لاحظ أنه قانون يحاكي الجرائم الصغيرة ولا يعطي إعفاء عن الجرائم المالية، والإرهابية التي تطال القوى الأمنية والجيش اللبناني.

 

لكنّ عضو تكتل “لبنان القوي” أسعد درغام، يشرح اعتراض “التيار الوطني” النابع من مبدأ أنّ اللجنة الوزارية لم تنته من درس القانون بعد، مستغرباً في الوقت نفسه أن يكون هذا القانون هو نفسه الذي أعدته اللجنة الوزارية.

 

وفي السياق، أشار الى أنّ “التيار سيعمل على إسقاط المشروع في مجلس النواب، لأنّ “بيكاره” واسع ولم يكتفِ بالعفو عَمّن تعاطى المخدرات وسَهّلها، إنما تعدّاه ليلحظ من يصنّعها ويزرعها ويتاجر بها، والنقطة الثانية أنّ المشروع يلحظ تخفيض عقوبة من قتل الجيش اللبناني وهذا ما لن نقبل به”.

 

ويضم درغام صوته الى الشارع ليؤكد أنّ الوضع الآن ليس مناسباً لمشروع كهذا، فالناس تطالب بالمحاسبة والمساءلة ونحن لن نقابلها بإطلاق متهمين، ملمّحاً الى أنّ السجون “قد تصبح شبه خالية في حال إقرار هذا الاقتراح”.

 

ويلاقيه عضو كتلة “الجمهورية القوية” النائب جورج عقيص، فيستغرب كيف يدرج مشروع قانون العفو في هذا الوضع الصعب، على جدول أعمال الجلسة التشريعية، وبصفة معجل مكرر، واصفاً إيّاه “بالسَلَطة الكبيرة في الوقت القاتل”.

 

وسأل: “ما الخطة الاصلاحية في هذا العفو؟ ولماذا أدرج في ورقة الحكومة الاصلاحية؟” ورأى أنّ الشارع “استدرك الخطأ في التوقيت، وتحرّك خشية أن يلحظ القانون جرائم الفساد التي يرتكبها السياسيون. فعلى رغم أنّ القانون لا يشمل الجرائم المالية، لكن عدم ذكرها صراحة ضمن الجرائم المُستثناة يثير الريبة، وإذا كان هناك من نوايا حسنة ممكن إضافتها، والّا تكون نية الافلات من العقاب تجاه بعض الجرائم المالية واضحة”.

 

وتنسحب سلبيّات مشروع قانون العفو القانونية والسياسية بصيغته الحالية على البنية الاجتماعية للدولة، ويعد قنبلة موقوتة قابلة للانفجار بأي لحظة، من هنا ترى البروفسورة في العلوم الإجتماعية سناء صبّاغ، أنه من الناحية الإجتماعية هناك مخاطر جمّة لخروج من وصفتهم “بالدمويين” من السجن بعفو عام، وقالت: “سيتسبّب خروجهم بارتفاع نسبة الجرائم في لبنان، فمن السهل على الدموي قتل أو تفجير أو نقل متفجرات… فمن يدخل كمجرم في لبنان يخرج أكثر إجراماً، ومن دخل كمروّج أو تاجر سيستمر في العمل لدى خروجه”. وأسفت “للغياب شبه التام لبرامج تغيير السلوك والدمج في المجتمع وإعادة التأهيل”، وطالبت بضرورة أن تتعاون وزارة الداخلية مع الاختصاصيين الإجتماعيين في السجون لمساعدتهم على وضع برامج تأهيلية، لافتة الى أنّ “الخطوات خجولة وجميعها ضمن إطار الوعود”.

 

كما استغربت كيف غاب عن نظر من أعَدّ هذا القانون “أهالي الضحايا الذين تمّ إيذاؤهم نفسياً وجسدياً وتدميرهم اقتصادياً”.

 

إقتراحات أخرى

وإذا كانت لمَن في السلطة اليوم أهداف “سامية” بعيدة عن المكاسب السياسية التي يمكن أن يجنيها من جرّاء إقرار هذا القانون، فهناك حلول عدّة مطروحة أمامهم لتقليص عدد السجناء بطريقة عادلة تحاكي “محاربة الفساد”. من هنا اقترحت الاستاذة الجامعية وصاحبة جمعية “Rescue me crime prevention” مايا يموت سلسلة اقتراحات تقلّص عدد السجناء في السجون، أوّلها، ترحيل غير اللبنانيين “والذين تتراوح نسبتهم بين 40 الى 45 %، بينهم أكثر من 100 متهم بالإرهاب، كاشفة أنّ “ترحيلهم يخفف مصاريف كبيرة على الدولة اللبنانية”. والإستفادة من محكمة رومية التي كلّفت الدولة اللبنانية الملايين لتجهيزها، وتآكلها الغبار بسبب عدم رغبة القضاة في الذهاب إليها.

 

كما اقترحت إنشاء مراكز تأهيل بدل تكبير السجون، لأننا في ظلّ كارثة كبيرة من جرّاء عدم تأهيل السجناء، فهناك فئة كبيرة يمكن العمل على إصلاحها.

ولحظت ضرورة عدم تقاعس القضاة في أداء مهماتهم، لأنّ نحو 80 % من السجناء لم تصدر أحكامهم بعد بسبب التقاعس.

 

إنّ رئيس مجلس النوّاب نبيه بري مصرّ على عقد الجلسة العامة في التاسع عشر من الجاري، وبجدول أعمال الجلسة التي أرجئت. وبالتالي، فإنّ مشروع قانون العفو سيحضر على الطاولة بصيغته “الملتبسة”، فكيف سيمر “قطوع العفو العام”؟ وكيف ستبرر الكتل إقرار قانون يستفز شريحة واسعة من الرأي العام وفيه من الثغر ما يجعله ميتاً قبل أن يولد؟