IMLebanon

قانون العفو العام… “هرطقة قانونـــــية”؟

 

 

أثبتت السجلات التاريخية في البلاد انّ قرار العفو العام للمساجين يتم اتخاذه عادة في الظروف الاستثنائية وإثر الحروب الاهلية، ويأتي ليمحو حقبة سوداء في البلاد ويبلسم الجروح، فتبني الدولة اسساً لمجتمع جديد، إلا انّ الامر لا يعني عدم إقدام البلاد على عفو خاص بسبب وباء منتشر انما بشرط ان يكون هذا العفو محصوراً في الزمان والمكان، وقد يشكل وباء كورونا عاملاً ضاغطاً على القضاء إلا انه لا يمكن ان يكون مبرراً لإقرار قانون عفو عام شامل، في وقت تتساءل مصادر قضائية عن قانونية هذا الاقرار في لبنان اليوم وما اذا كانت خطوة حكيمة في ظل انتشار الوباء في المجتمع اللبناني وفي كافة المناطق اللبنانية على حد سواء وليس فقط في سجونه؟

وتسأل تلك المصادر أيضاً عما اذا كان العفو العام هو الخطوة المثالية في ظل الوضع الراهن على المستوى الاجتماعي السياسي والامني والصحي المتدهور اصلاً في لبنان، فيما يسأل البعض عن الدور الذي يمكن ان تلعبه وزارة الصحة في السجون معتبرة انّ الحل الامثل هو متابعة معالجة المصابين في السجون او في عدة مبان واسعة تابعة للدولة كالمستشفيات الميدانية عوض الافراج عنهم، محذّرة من خطورة تنقّل هؤلاء بين المواطنين من دون رقابة وفي ظل اكتظاظ المستشفيات والأسرّة وغرف العناية الفائقة في لبنان.

 

ولأنّ الاكتظاظ شامل ولا يقتصر فقط على السجون، وقبل طرح الاسئلة وعرض اسباب هذا الاكتظاظ المتزايد تدريجاً منذ 10 سنوات وكذلك عرض اسباب ارتفاع عدد الجرائم بنسب عالية بحسب الاحصائيات الاخيرة، لا بد من الاشارة الى نموذج من السجناء الذي خرج منذ مدة قصيرة من السجون لأسباب تخفيفية، او سياسية ربما، فارتكب جريمة في حق عسكريين من الجيش اللبناني كلّفتهما الشهادة فجعلتنا نتّعِظ وربما نتراجع ونأخذ العبر، في حين يتساءل اللبنانيون عن نوعية الدفعة المنوي اخراجها «بعد التخرج» من السجون اذا ما تم اقرار العفو العام في جلسة مجلس النواب اليوم، خصوصاً انّ المطلوب اليوم هو العفو الخاص عن مساجين أنهوا مدة احكامهم او ما تبقى منها بعدما اثبتت سيرتهم في السجون أنهم يستحقون تخلية السبيل وسيخرجون تائبين لا حاقدين او جاهزين للانتقام.

 

الا انه في الوقائع وفي ظل انتشار وباء «كورونا» ارتأى النافذون في الدولة اعادة طرح اقرار العفو العام المعدّل في الجلسة التشريعية ووضعه رئيس المجلس نبيه بري في البند الثاني من جدول اعمالها المتضمن 40 بنداً، على رغم من عدم الاتفاق السياسي عليه حتى الساعة، وذلك في خطوة رأت مصادر قضائية وسياسية أن من شأنها ان تطيح بالجلسة بسبب انعدام التوافق المسيحي ـ الاسلامي على صوابية اقراره في المرحلة الحالية.

 

وفي هذا السياق علمت «الجمهورية» انّ احتمال انسحاب الكتل المسيحية من الجلسة، اي «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» (اذا حضرت) هو احتمال كبير لتطيير الجلسة وليس النصاب، فتفقد ميثاقيتها ويبقى الرهان على حكمة بري ليعلّق الجلسة أو يستمر فيها بالاتفاق ربما والتوافق مسبقاً مع المكونات الاسلامية والمكون الدرزي خصوصاً، فيقر المشروع بالاكثرية وهو الامر المُستبعد، في رأي مصادر قضائية التي قالت، بحسب تقديرها، انّ بري «لن يفعلها» لأنها تسبب انشقاقاً مسيحياً – اسلامياً وتهيّئ لحرب اهلية وتزعزع السلم الاهلي والامني في البلاد. فيما تلفت المصادر الى ان من الممكن اقرار القانون في حالة واحدة وهي حذف المادة 9 منه، منبّهة الى خطورة هذه المادة الطارئة على قانون العفو المعدل بعدما تمت اضافتها وهو بند تخفيضي يعفي السجين من استكمال العقوبة. وهذا الأمر، في رأي المصادر القضائية، هو بمثابة احتيال على التشريع والتفاف على روحية القانون المقدم منذ الاساس.

 

ماذا تتضمن المادة 9؟

«يعفى من العقوبة المحكومون الذين لم يستفيدوا من العفو المنصوص عنه في المادة الاولى شرط ان يكونوا قد امضوا في السجن ثلاثة ارباع مدة العقوبة الواجبة بحقهم…». وتكشف المصادر القضائية ان الذي يحتاج الى قرار العفو لا تلزمه المادة 9، مؤكدة، بحسب قراءتها، انّ إمرار هذه المادة هو بمثابة فخ سياسي لإعفاء المرتكبين والمُستثنيين من قانون العفو العام، مثالنا عليه حالة احمد الأسير وغيره ممّن شابَهه. وتوضح المصادر انّ الامر بذلك لن يعود قراراً بالعفو العام بل قرار بخفض العقوبة والحكم، اي التدخل بالعقوبة والحكم ويزيل الصفة الجرمية عن المحكوم.

 

وكشفت المصادر القضائية نفسها لـ»الجمهورية» ان نسبة الموقوفين في السجون تبلغ 47 %، أي ان الاحكام قد صدرت في حق 53 % من المساجين، وهؤلاء فقط يمكنهم الاستفادة من العفو الخاص بقرار من القاضي المعني والذي لا يمكن الطلب منه إخلاء سبيلهم. فالعفو الخاص يُجيز للمحكوم بحكم مبرم التقدّم بطلب من رئيس الجمهورية اصدار مرسوم عفو خاص بعد استطلاع رأي لجنة العفو والنيابة العامة التمييزية التي قد يكون رأيها مخالفاً لقرار العفو فترسله بواسطة وزارة العدل الى الرئيس، إلاّ انّ هذا الاستطلاع لا يلزم رئيس الجمهورية بتبديل رأيه لأنّ قرار العفو الخاص هو صلاحية ثَبّتها له الدستور المنبثق من «اتفاق الطائف»، علماً أنّ المسجون المعفي لا يمكنه ايضاً رفض قرار الاعفاء إنما تسقط مفاعيل هذا الاعفاء فيما لو عاوَد ارتكاب الجرم. ولفتت المصادر الى انّ هذا المرسوم يطاول نسبة قليلة من السجناء الذين صدرت في حقهم احكام مبرمة.

 

وتوضح المصادر القضائية الفارق بين العفو الخاص الذي لا يصدر إلا من خلال مرسوم، والعفو العام الذي يصدر بمشروع قانون يقدّمه مجلس الوزراء او من خلال اقتراح قانون نيابي في مجلس النواب، علماً أنّ اقتراحات عدة تقدّم بها النواب لإقرار العفو العام إلّا انّ الاتفاق تمّ على صيغة نهائية دمجت بين كافة القوانين المقدمة ولكن العقدة كَمنت في المادة 9 التي نَصّت على خفض مدة العقوبة لجميع السجناء، فيما استثنى القانون من مقدمة مواده المتهمين بالارهاب وقاتلي الجيش وغيرهم… إلّا انّ التعديل الذي حملته المادة 9 جاء ليطرح استثناء على الاستثناء، فتم إعفاء هؤلاء المحكومين عبر الخفض وهو احتيال على التشريع، اي بعدما استثنَت المجرمين الضالعين في ارتكاب اعمال ارهابية من قتل عسكريين من الجيش وغيرهم من المدنيين، والضالعين في اعمال ارهابية وتجار المخدرات الكبار جعلتهم يستفيدون من الخفض، الامر الذي اعتبرته المصادر القضائية احتيالاً على اسباب التشريع، اذ يستفيد من هذا الاعفاء السجناء الذين لا يشملهم العفو قبل تاريخ نفاذ القانون حتى وان لم تكن قد صدرت في حقهم احكام او لم تباشر جلسات محاكمتهم. وهذا الامر، في رأي مصدر قضائي مطلع، هو غير قانوني وغامض وبمثابة «هرطقة قانونية» اذ لا يمكن التشريع على «حكم معلق» ولم يصدر بعد، أي التشريع لخفض عقوبة لم تصدر بعد ولم تُلفظ، معتبراً «انّ هذا الامر برمّته مخالف لمبدأ التشريع».

 

الاكتظاظ وأسبابه

عن الاكتظاظ في السجون يتساءل المواطن يومياً عن المسبب الاساس الذي منع الدولة والمعنيين حتى اليوم من بناء السجون في املاكها الشاسعة، فيما لفتت المصادر المعنية الى أنّ الجواب على عدم بناء السجون حتى اليوم يطرح على مالية الدولة والوزارة المعنية بالمتابعة، اي وزارة الداخلية. وتكشف مصادر وزارة الداخلية انّ الاكتظاظ مردّه الى عوامل كثيرة منها العامل الاجنبي المتزايد منذ اكثر من 10 سنوات وتزايد عدد السكان، بالاضافة الى تزايد عدد الجرائم بنسبة 141 % بحسب الاحصاءات، وكذلك بسبب البطء في عقد جلسات المحاكمة لأسباب كثيرة، زِد عليها تفشي وباء كورونا فتأخّر انعقاد الجلسات الى توقفت كلياً أخيراً في سجن رومية بعد ان كانت منطلقة في القاعة المُحدثة الجديدة.

 

وزارة العدل تنبّه

وتنبّه اوساط وزارة العدل الى وجوب الاسراع والبدء بالخطوات الاصلاحية في السجون ولا سيما منها المتعلقة بأسباب الاكتظاظ، منبّهة الى ضرورة البدء ببناء السجون الاصلاحية لأنها الخطوة الانجع والاساس للبدء في مسيرة اصلاح السجون وللحد من الاكتظاظ فيها.

 

وتساءلت تلك الاوساط عن سبب عدم بناء السجون حتى اليوم على رغم من إتمام تجهيز الخرائط للمباني الجديدة، الّا إذا كانت الأموال قد صرفت على مشاريع أخرى.

 

واضاءت تلك الأوساط على سير الجلسات القضائية المتقدمة على رغم من تفشي وباء «كورونا»، كاشفة عن إحصاءات للسجناء في السجون اللبنانية حتى الشهر الحالي للدلالة الى سير الجلسات في انتظام وبلا تأخير بعكس ما يشاع حتى في ظل كورونا، ولا سيما منها جلسات الاستجواب عن بُعد التي بلغت، بحسب اوساط وزارة العدل، ما لا يقل عن 3300 جلسة استجواب في دوائر التحقيق في لبنان كافة.

 

وعن أبرز الإنجازات التي بادرت إليها وزارة العدل في ظل تفشّي وباء كورونا أوضحت الأوساط نفسها أنّ الوزارة، بالإضافة الى إطلاق آلية الإستجواب الالكتروني في دوائر التحقيق في لبنان كافة، امتدّت هذه التجربة مؤخراً بقرار من مجلس القضاء الاعلى إلى محكمة الجنايات في بيروت، على أن يُباشَر بها قريباً في الشمال وفي سائر المناطق. وأضافت تلك الأوساط أنّ وزارة العدل وضعت جداول بأسماء محكومين في دعوى واحدة وفقاً للمعايير التالية: المساجين الذين تبقّى 3 أشهر من تاريخ انتهاء محكوميتهم، والذين يعانون أمراضاً مزمنة والكبار في السن، والذين أنهوا مدّة محكوميتهم ولم يتمكنوا من دفع الغرامات المتوجبة عليهم، وذلك لغايات طلب العفو الخاص. ولقد تمّ إرسال هذه الجداول الى مقام رئاسة الجمهورية بعد استطلاع رأي لجنة العفو الخاص والنيابة العامة التمييزية، لاتخاذ القرار بشأنها.

 

وذكرت تلك الاوساط أنّ وزارة العدل قدمت في آذار مشروع قانون معجل مكرر الى الحكومة التي أقرّته، وقضى بإعفاء نحو 120 محكوماً من الغرامات بقي منهم 57 فقط. وكشفت انّ العمل جار لتسوية غراماتهم لتخلية سبيلهم أسوة بمَن سبقهم.

 

واستغربت اوساط وزارة العدل الاقتراح المماثل الذي قدمه النائب بلال عبد الله في وقت تمّت إحالة مشروع القانون المماثل من قبل الحكومة الى مجلس النواب في 20 آذار مع اسبابه الموجبة، إلا انه لم يتم وضع المشروعين على جدول اعمال الجلسة المقررة اليوم. (العودة الى القائمة الإحصائية للسجناء)

 

 

نقل إدارة السجون؟

وتقول المصادر القضائية انّ الخطوة الاصلاحية الثانية بعد الشروع في بناء السجون تقضي بنقل ادارة السجون من عهدة وزارة الداخلية الى وزارة العدل، موضحة انّ وضع ادارة السجون في عهدة الجهاز القضائي تبقى افضل من ان تكون في عهدة الجهاز العسكري مع احتفاظ وزارة الداخلية بجهاز امني يُعنى بالشق الامني في السجون مع ابقاء الشق الاداري والاصلاحي في يد وزارة العدل. وحذّرت من خطورة ان يتحوّل قانون العفو عرفاً فيصبح درجة رابعة من درجات القضاء الثلاثة، اي بعد حكم البداية والاستئناف والتمييز.

 

في السياق، ذكرت اوساط وزارة العدل انّ اهم الاصلاحات المطلوبة مجتمعياً ودولياً في المرحلة الراهنة هي المحاسبة، متسائلة ما اذا كان إقرار قانون العفو العام خطوة صائبة وجائزة في ظل الرهانات الداخلية والخارجية المطلوبة من لبنان وأوّلها المساءلة والمحاسبة.

 

ويختم المصدر القضائي النقاش بالتذكير بمشهد التظاهرات في منطقة مشغرة في البقاع الغربي احتجاجاً على نقل السجناء المصابين بكورونا الى مستشفى خصّص للسجناء هناك، مشبّهاً المشهد بـ»انفصام وطني» في بلد يَتشدّق بالرقي، ليطرح السؤال: «اذا لم تقبل أي منطقة في لبنان نقل المصابين من سجن رومية للمكوث فيها حتى لدواع إنسانية فكيف سيقبل هؤلاء بالعفو العام عنهم؟».