IMLebanon

الجنرال ولعنة السياسة اللبنانية

عندما دخل الجنرال ميشال عون معترك الحياة السياسية اللبنانية من بوابة رئاسة الحكومة المؤقتة العام 1988، لم يدرك أحد من الطبقة السياسية ـ الميليشياوية يومذاك أن القائد السابق للجيش لم يخرج من عباءة العقيدة العسكرية التي طبعت مبادئه الوطنية الصافية. لقد عانى الجنرال ما عاناه خلال الحرب الأهلية من رؤية وطن كاد يباع على أرصفة العالم والمنطقة.

وكم كان يحز في نفس الجنرال أن يرى مشهدين في وطن واحد. حدث ذلك عندما كان عائداً وقواته من الجنوب في أيلول العام 1972 بعد مواجهة مشرفة مع العدو الإسرائيلي: مشهد معاناة أهل الجنوب جراء القصف الإسرائيلي والعبث الفلسطيني بالسيادة الوطنية، ومشهد الأضواء الليلية المنبعثة من مرابع بيروت الساهرة حتى الصباح. يومها أعلن الجنرال عون أن شعباً لا يتعاضد أبناؤه مع بعضهم البعض أيام المحن يدخل وطنهم في دائرة الخطر.

وما هي إلا بضع سنوات حتى انفجرت الحرب الأهلية التي عانى اللبنانيون خلالها ما عانوه من قتل ودمار وإذلال على أيدي الميليشيات التابعة لقوى إقليمية ودولية. ومن دون أدنى شك، فإن الطبقة السياسية يومذاك كانت مسؤولة إلى حد كبير عما لحق بالبلاد من مآسٍ وويلات.

كان هم الجنرال في أواخر الثمانينيات تحقيق هدفين: تحرير الأرض من الجيوش المحتلة، وبناء دولة عصرية يكون فيها الإنسان – المواطن قيمة بحد ذاتها. وكان قصر بعبدا يومها رمزاً شاهداً على تلك الهوة السحيقة بين الدولة والمواطن. وإذا بالجنرال يحوّل قصر بعبدا إلى «بيت الشعب»، في خطوة عملية أراد من خلالها أن يعطي الثقة للبناني في قدرته على تقرير مصيره، مطلقاً شعاره التاريخي: «إن الحياة خارج إطار الحرية هي شكل من أشكال الموت». وحتى لا يبقى الشعار شعاراً، خاض الجنرال حربين شرستين انتهتا في 13 تشرين الأول 1990 بقرار أممي ـ اقليمي، نتج عنه إدخال الميليشيات إلى السلطة وإبعاده هو إلى فرنسا.لكن حلم الجنرال لم ينته، وبينما كانت «الدولة الممسوكة» تجري انتخابات نيابية صورية، كان الجنرال يستجمع قواه، يرفع الصوت عبر محاضرات ومؤتمرات، وصولاً إلى واشنطن التي أصدرت العام 2003 قانون «محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية». كان ذلك القانون إشارة واضحة إلى أن تحرير لبنان بات في متناول اليد.

لكن الجنرال يومها، والذي لا يرضى، لا بل يرفض، تحقيق انتصار على شركائه في الوطن، دعا الجميع إلى عقد مؤتمر وطني لإجراء مصالحة شاملة والتفاهم على الطريقة الفضلى لبناء دولة عادلة وقادرة. وكان يوم السابع من أيار 2005 يوماً مجيداً في تاريخ لبنان، إذ سجّل ذلك اليوم عودة الجنرال الذي خاطب الجماهير: «يا شعب لبنان العظيم»، ليذكِّرهم انه لم يزل على ثوابته… فلم يُسحق ولم يوقع.

لم يتعظ خصوم الجنرال، فحاولوا محاصرته في الانتخابات التي جرت بُعيْد عودته بأيام؛ كما حُرم من المشاركة في الحكومة برغم حصوله على 21 نائباً في أكبر كتلة برلمانية مسيحية منذ العام 1943. تجدر الإشارة إلى أن الجنرال كان السياسي الوحيد الذي طرح برنامجاً انتخابياً لخّص فيه رؤيته للبنان أفضل. ومجمل القول إن الجنرال هدف بعد عودته من باريس إلى تجديد الحياة السياسية وحماية لبنان من الخطر الصهيوني. إلى ذلك، وقع وثيقة تفاهم مشتركة مع السيد حسن نصر الله. تلك الوثيقة التي جعلت من الجنرال شريكا أساسياً في تحقيق انتصار تموز 2006.

في الدوحة، لعب الجنرال دوراً توفيقياً مستعيداً بعض الحقوق للمسيحيين. بعد ذلك، اثبت وزراء «تكتل التغيير والإصلاح» جدارة عالية في إدارة الوزارات التي تبوّأها من الطاقة والاتصالات إلى الخارجية والتربية. وعليه، فمن حق الجنرال أن يكون مرتاح الضمير، لأنه لا يوجد دم على يديه، ولا توجد عمولة في جيبه.

بعد هذه العجالة، أصبحتُ مقتنعاً أن الطبقة السياسية محقة أن تخاف من الجنرال. إنها طبقة تعرف تماماً من أين تؤكل الكتف. إنها طبقة استفادت من الاحتلال، ثم انقلبت عليه لتستفيد من بازار الاستقلال الثاني. إنها طبقة تتقاسم النفايات والكهرباء والمياه والأملاك البحرية، وكل ما وقعت عليه أيديها. إنها طبقة تعطل المجلس الدستوري وتتدخل في القضاء وتنتهك الدستور وتسخِّف القوانين… ثم تحاضر بالعفاف. باختصار، إنها طبقة سياسية لا يشبهها الجنرال عون بشيء. فالجنرال يحلم بدولة نظيفة، بدولة المواطنة، بدولة خالية من الفساد. والجنرال ليس وحيداً؛ فمن يحميه شعبه يحاصِر ولا يحاصَر. ولن يسقط الحلم. وكما استعدنا الأرض، والحرية، سوف نستعيد حقوق كل اللبنانيين.

ويكفي أن نختم بما يلي: سُئل الإمام علي بن أبي طالب (ع): ما يُفسد أمر القوم يا أمير المؤمنين، قال: ثلاثة وثلاثة، وضع الصغير مكان الكبير. وضع الجاهل مكان العالم. وضع التابع في القيادة. فويل لأمة مالها عند بخلائها. وسيوفها بيد جبنائها. وصغارها وُلاتها.