Site icon IMLebanon

الجنرال عون والنزول إلى الشارع

«النزول إلى الشارع»، بهذه العبارة إياها، وبهذا التهديد العبثي، وبهذا النزق الأرعن، وباستهتار واستخفاف لا مثيل له بأمن اللبنانيين وحاضر بلادهم المأزوم وهشاشة أوضاعهم الراهنة، عبر الجنرال عون على الحل الكارثي لمشكلاته المزمنة. وليكن ما يكون.

والحق أن أحداً من اللبنانيين لم يصب لا بالذهول ولا بالاستهجان لدى سماعه هذا التصريح المدوي. لأن دعوة كهذه تتسق وتندرج مع كل التاريخ السياسي وذلك النهج والنمط والخط البياني الذي دأب الجنرال على المضي فيه منذ ثمانينات القرن الماضي. فهو الذي أقحم لبنان يومها في حربين ضاريتين لم ينجم عنهما سوى إحكام قبضة النظام الأسدي في أعناق اللبنانيين. بل بالتحديد المسيحيين منهم الذين يدعي الآن الدفاع عن مصالحهم ويطالب بصيغة تمثيلهم في المؤسسات والإدارات. وكم كانت مريعة تلك المفارقة التاريخية التي شهدناها عندما سارع بعد أن وطئ أرض لبنان بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لعقد تحالف مريب مع حزب الله وفي آن معاً لنيل لقب «بطريرك العرب» الذي خلعه عليه بشار الأسد بالذات عندما زار الجنرال سوريا مستكشفاً منابع وجذور الطائفة المارونية التي يؤكد اليوم صدق تمثيلها. فالذي لا يملك حق العطاء قدم هدية لمن لا يستحق والحق أن الإثنين كانا يستهدفان سيد بكركي الذي لعب دوراً أساسياً في مواجهة الوصاية الأسدية فلم يلن ولم يتراجع ولم يقدم أي تنازلات حيال هيمنة دمشق على لبنان، عنيت به البطريرك صفير الذي سيبقى وجهاً ناصعاً في تاريخنا الحديث.

لم ينس اللبنانيون مآثر الجنرال في 7 أيار 2008 عندما بدورهم واكب محازبوه ضمن خطة مرسومة وموقعة اجتياح حزب الله بيروت الغربية والجبل ومناطق أخرى، فقد شهدناهم يومها بأم العين على مفترق الطرقات في البترون والكورة وكسروان والمتن يفتعلون صدامات استفزازية لإشعال الحرب هناك أيضاً ظناً أن ذلك أفضل الطرق المؤدية إلى قصر بعبدا الذي كان يومها كما هو الآن شاغراً. إلا أن رياح مؤتمر الدوحة خيّبت الآمال العونية مرة أخرى في تحقيق الحلم وأمنية العمر.

لم ينس اللبنانيون كيف، وكانت دماء الشهيد بيار الجميل لم تجف بعد من ساحة جديدة المتن، سارع الجنرال في معركة انتخابية مرتجلة لاحتلال المقعد النيابي للشهيد مما أثار اشمئزازاً عميقاً في جميع الأوساط «لأنه ليس كل ما هو قانوني هو بالضرورة الموقف الصواب» لأن في تقاليدنا اللبنانية هناك حرمة للأموات وكيف تكون الحالة لو كان الميت شاباً شهيداً ونائباً ووزيراً مميزاً.

لم ينس اللبنانيون ذلك اليوم الانتخابي وكيف أمام سرايا الجديدة حيث كان يتم فرز الأصوات في المساء وحيال تسرب إشاعات مدسوسة لم يتورع الجنرال عن الطلب من أنصاره «النزول إلى الشارع» أمام السرايا المذكورة، حيث كان يحتشد أنصار الكتائب والقوات اللبنانية، فكادت كرة نار الحرب الأهلية تشتعل بدورها من هناك وفي لحظات معدودات… فالنزول إلى الشارع عنده مسألة عادية وبصرف النظر عن نتائجها.

يروّج الجنرال وماكينته الإعلامية منذ ذلك الوقت وعلى الدوام في الأوساط المسيحية تلك المقولة المخادعة التي من جهة تشكل تبريراً ومسوغاً لعقده ورقة التفاهم مع حزب الله ومن جهة أخرى، باعتقاده، تعبّد له الطريق إلى قصر بعبدا حيث الرئاسة الأولى، أي أن مهادنة حزب الله هي الطريق الأسلم لحماية الوجود المسيحي في لبنان في حال اندلاع صدام إسلامي إسلامي. إنه بكل بساطة يلعب على وتر عقدة الخوف عند المسيحيين تلك العقدة التاريخية التي أمنت له كتلة نيابية وازنة، تماماً كما جرى في الانتخابات النيابية الأخيرة في جزين. إنها انتهازية سياسية من الطراز الأول.

«النزول إلى الشارع!» إنها المغامرة المحفوفة بأشد المخاطر وأدهاها التي يلوح بها الجنرال عون في حال لم تستجب الحكومة السلامية لمطالبه وهي كثيرة والتي في حقيقتها تعبّر عن عقل قسري لا يتورع عن إشعال الحرب في سبيل تحقيقها. فهو يملي على الحكومة ضرورة تعيين قائد للجيش قبل إحالة الجنرال قهوجي على التقاعد، وهذا القائد الجديد هو صهره بالذات الذي بدوره قد شارفت مدة خدمته على نهايتها آخر هذا الصيف، لأنه يظن أن هذا القرار الحكومي من شأنه إحكام سيطرته على هذا الموقع الحساس وبالتالي مرة أخرى تهيئة الظروف المؤاتية له للوصول إلى قصر بعبدا.

إلا أن هذه الدعوة، وهذا التهديد بل هذه المغامرة العبثية استدعت على الفور وأثارت ردود فعل معاكسة هي من الوضوح والحزم بمكان. فالرئيس بري الذي دعاه إلى وجوب احترام عمل المؤسسات وقواعدها، كان موقفه واضحاً منذ أيام في إحدى قرى الجنوب حيث أمام عدد من نواب حزبه وكتلته وقف منهم من أدان علناً وصراحة رهن مصير لبنان بأهواء وأطماع رجل واحد.

وتوالت ردود الفعل الغاضبة من مختلف الأوساط والأحزاب والكتل بل من البطريرك الراعي نفسه، بل حتى حليفه المدجج بالسلاح حزب الله ليس في صدد خروج الوضع اللبناني من تحت السيطرة ولا في صدد الإطاحة بالحكومة لأن متاعبه في الحرب السورية هي شغله الشاغل الآن.

إن الكلام المرتجل والباحث أبداً عن شعبوية مسيحية عبر الشحن الطائفي والمذهبي، والطروحات والمشاريع العبثية والمستحيلة من نمط استفتاء المسيحيين أولاً ثم الانتخاب المباشر ثانية وكأننا في نظام رئاسي، وكذلك التحريض المتواصل للمسيحيين على خلفية الصلاحيات المنقوصة لرئيس الجمهورية لن يؤدي قط إلى تسهيل أمور الجنرال عون. أليس الأجدى به العودة إلى دستور الطائف والتوقف عن ابتداع الهرطقات وركوب المغامرات؟

إن المكان الطبيعي والقانوني والدستوري الشرعي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، والذي مضى على شغور موقعه عام ونصف، والذي يعطل فيه الجنرال وحلفاؤه النصاب القانوني على الدوام، هو البرلمان. وأما المعارك الجانبية والنزول إلى الشوارع وفرض الإملاءات القسرية الرعناء على اللبنانيين فهي رهانات خاسرة سلفاً.

في اللغة الشعبية اللبنانية مثال صارخ على واقع حاله المأزوم «لو شاءت أن تمطر لرأينا الغيوم في السماء». ألا يرى معنا الجنرال أن حظوظه في الوصول إلى قصر بعبدا معدومة. فما الجدوى والحالة هذه من كل هذا الزعاق وإثارة المتاعب بلا طائل؟