أفصح الجنرال ميشال عون عن كامل مشروعه السياسي عبر الإعلان الصريح عن رفض النظام القائم ومعه وثيقة الطائف، تحت حجة ان حقوق المسيحيين مسلوبة من قبل طائفة أخرى، وبالتالي اندفع في تعطيل الحياة السياسية التي وصلت الى المس بالكيان نفسه: فلا انتخابات لرئاسة الجمهورية، ولا مجلس نيابي يعمل، ولا حكومة تمارس صلاحياتها. دفع بالأمور عملياً الى ما يشبه الحركة الإنقلابية من خلال النزول الى الشارع علّه بذلك يفرض تحقيق مطالبه. يستدعي مشروع الجنرال الملاحظات الآتية:
أولاً – اقترن تغيير التركيبة السياسية او تعديدلها منذ الاستقلال حتى اليوم باختلال في ميزان القوى لدى الطوائف. فالطوائف لا تتخلى عن امتيازاتها او تقدم على تسويات سلمية تأخذ في الاعتبار التغيرات الحاصلة، فيتحول التعنت الى احتراب أهلي يؤدي في النهاية الى تسوية، لكن بعد ان يكون البلد وطوائفه دفعت ثمناً باهظاً. هكذا الأمر في الأعوام 1958، 1989، 2008. ما يطرحه الجنرال حالياً يحتاج الى حرب أهلية لتتحقق بموجبها مطالبه.
ثانياً – يتلاقى الجنرال و«حزب الله» في السعي الى مؤتمر تأسيسي يعيد النظر باتفاق الطائف وبمجمل الصيغة ومواقع السلطة فيها. لكن أهداف كل طرف بعيدة من أهداف الطرف الآخر كلياً. ما يريده الحزب هو إعادة تركيب السلطة بما يعطي الطائفة الشيعية الموقع الأول والأساس في هذه الصيغة، بالنظر الى ميزان القوى المختل اليوم لمصلحة الطائفة والقوة العسكرية التي تمتلكها بما يجعلها في موقع متميز عن سائر الطوائف. الذي يمنع انتخاب رئيس للجمهورية هو حزب الله وليس الجنرال، لأن الحزب يريد صيغة مختلفة للرئاسة غير ما هي قائمة عليه.
في السياق نفسه، هل يصدق الجنرال عون ان طرفاً يخوض له المعركة سيسلّم له المكاسب؟ لم يسبق لطائفة في لبنان ان تنازلت عن مكسب لها الى طائفة أخرى، وليتذكر الجنرال ان مركز مديرية الأمن العام كان من المراكز الثابتة للطائفة المــارونية، لــــكن النظام السوري وضع على رأسها ضابطاً يدين له بالولاء، ولم يستطع الجنرال استعادة المركز من الطائفة الشيعية على رغم كل تحالفه مع أقطابها.
ثالثاً – ان طرح موضوع تعديل النظام والصيغة حالياً هو كمن يفتح «صندوق باندوره» المشهور. اذا كانت الطوائف خلال فترة انتظام التسوية تتحلى ببعض الحياء في الإفصاح عن مطامحها، فان فتح ملف الصيغة سيلغي هذه المسافة من الحياء. من قال ان المطالب ستبقى محصورة بما يرغب به الجنرال، قد لا يدرك الآن ان الذهاب بالــــموضوع الى نهايته لاستعادة الصلاحيات، قد يثير لدى سائر الطوائف امر طرح موقع الطوائف المسيحية راهناً، سواء من حيث الديمغرافيا حيث تقلص عدد المسيحيين كثيراً قياساً على الطوائف الإسلامية، او من حيث الموقع الاقتصادي حيث لم تعد الأرجحية في هذا الموقع للطوائف المسيحية كما كان الأمر قبل الحرب الأهلية، او من حيث المؤهلات العلمية والثقافية التي لم تعد حكراً في معظمها على النخب المسيحية… لذلك قد لا يكون بعيداً مطلقاً ان تصعد مطالب فاجرة كفجور الجنرال فتتساءل عن مشروعية الامتيازات المعطاة اليوم للطوائف المسيحية بدءاً برئاسة الجمهورية وصولاً الى قيادة الجيش وغيرها من المراكز الحصرية للطوائف المسيحية. بل أكثر من ذلك، من قال ان المناصفة ستبقى القاعدة لتقاسم السلطة، فيما لم يعد الحديث سراً عن المثالثة، المسيحية، الشيعية، السنية.
رابعاً – عاد الجنرال الى طرح الفيديرالية كحل أخير اذا لم تتحقق مطالب المسيحيين وفق ما يريد. والفيديرالية عند الجنرال هي التقسيم والانعزال في مناطق جغرافية محددة ضمن كانتونات صغيرة
ان إمعان الجنرال في الدفع بمشروعه الى الأمام هو مشروع حرب أهلية جديدة، سيقطف ثمارها «حزب الله» ومشروعه السياسي وليس الجنرال، وستؤدي بالمسيحيين الى مزيد من خسارة المراكز والمواقع، والى مزيد من تهجيرهم. وهذه المرارة اعتاد الجنرال تجريعها للبنانيين عندما تسنى له ان يحكم البلاد في 1989.