في نهاية هذه الجولة الخاسرة أيضاً، أقل ما يقال فيها إنّ الجنرال يشعر بخيبة أمل. ليس لأنّه فشل في تحقيق هدفه تكريساً لمنطق التعيين في قيادة الجيش وكسراً لعرف التمديد، بل لأن منظومة مصالح تجمع قوى متخاصمة في السياسة، ومتلاقية على بعض التقاطعات التي تحمي تركيباتها، تكتلت بوجهه لتخرجه من «مولد» التعيينات العسكرية «بلا حمص».
صار واضحاً أنّ المسألة تتعدى هوية قائد الجيش والوسيلة التي تحمله الى المركز الأول في المؤسسة العسكرية، وتتخطى امكانية ترشيح العماد جان قهوجي لرئاسة الجمهورية، واستطراداً حماية هذا الترشيح وصيانته من خلال ابقاء النجوم على كتفيّ الجنرال. المسألة أبعد من ذلك.
يقول بعض المواكبين إنّه ليس بريئاً أنّ يُكسر ميشال عون ثلاث مرات متتالية بضربة زرقاء، تقصدت عن سابق اصرار وتخطيط أن تأتي به الى ملعبها بعد أن يمدّ يد التفاهم، لتسدد له الضربة تلو الأخرى، بأعصاب باردة.
الانتكاسة الأولى كانت في رئاسة الجمهورية التي قُبض على التفاهم حولها مع سعد الحريري في ليلة بدا فيها أنّ فؤاد السنيورة أقوى من «شيخه». فمحت بيروت كلام روما.
والانتكاسة الثانية كانت حول قيادة الجيش التي راحت مقايضتها (قيادة الجيش مقابل المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي) أدراج الرياح حين قرر «مستقبليو بيروت» وضع أيديهم في الطبخة.
أما الانتكاسة الثالثة فهي حول قانون رفع سنّ التقاعد. هنا أيضاً تتشابه الرواية مع ما سبقتها ولو اختلفت التعابير، لكن الجوهر ذاته. توضع المبادرة على طاولة ميشال عون في اللحظات الأخيرة التي تسبق جلسة الحسم في مجلس الوزراء، على أساس أنّ الرئيس نبيه بري، وليد جنبلاط، الوزير نهاد المشنوق، وبطبيعة الحال «حزب الله»، موافقون على مضمونها.
ردّ الجنرال كان واضحاً بأنّه لا يعارض المبادرة لكنه لن يصوت الى جانبها في مجلس النواب، لكنه في المقابل سيؤمن شرعية الجلسة التشريعية. نام الرجل على حرير سيناريو تأجيل الأزمة من خلال الإبقاء على كبار الضباط (بمن فيهم شامل روكز) في السلك العسكري… واستفاق على «قرار ثلاثي» يبقي الضباط جان قهوجي، محمد خير ووليد سلمان دون غيرهم، في اليرزة.
بالنتيجة، وقعت الأزمة. رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» يخسر معركة أخرى، أرادها خصومه خسارة تحفر مكانها ندوباً، ولكن من دون ضجيج. لعلهم يعرفون مسبقاً حدود هذه اللعبة وما يمكن للرجل أن يفرض من ردات فعل اعتراضية. لذلك تجرأوا وتقدموا الى الأمام.
على الرغم من تهديده باستخدام ورقة الشارع التي جرّبها عون في المرة الأولى على وقع جلسة التاسع من تموز الماضي، فهو يعرف كما هم، أن هذه الورقة حارقة ولا يمكن الركون اليها بسهولة. لن ينزل الى الشارع بشكل متفلت لأن الاستقرار خط أحمر ولا يمكن هزّ عرشه، ولا يجوز بالأحرى تعريضه للخطر. وبالتالي فإنّ الانجراف نحو الأمام يبقى محاصراً بالكثير من الشروط الوقائية.
كما أنّه لن يستخدم هذا الملعب إذا لم يضع مسبقاً سلة أهداف قابلة للتحقيق تسمح له بالعودة من الشارع الى طاولة المفاوضات منتصراً، ولا يجره بالتالي الى معركة استنزاف تكون نتائجها صعبة. وأيضاً، هو لن يفعل ذلك كله اذا لم يكن يملك ترف استثمار هذه الورقة بشكل قوي ومؤثر، يربك خصومه من دون أنّ يلحق الضرر بنفسه وبتياره.
لذلك، قد يركز ضغطه في مكانين آخرين: مجلس الوزراء ومجلس النواب. طبعاً سيصبح الحديث عن امكانية المشاركة في جلسات تشريعية ضربا من ضروب الخيال. وحتماً سيتعيّن على الرئيس تمام سلام الاستعانة بقفازات ملاكم ليجبر أركان السلطة التنفيذية على التفاهم على آلية عمل كي لا تفقد الحكومة أنفاسها وتدخل الكوما القسرية.
ومع ذلك، فإن باكورة الموجة الاعتراضية بدأت من خلال سلسلة لقاءات داخلية تعقد في الرابية، حيث استدعى الجنرال منسقي الأقضية لوضعهم في أجواء التحرك المرتقب. وقد أبلغهم أنّه سيتوجه الى الرأي العام اليوم السبت ببيان شديد اللهجة، ودعاهم للبقاء في حال جهوزية عالية لأنّ هناك احتمالاً للنزول الى الأرض منتصف الأسبوع المقبل… و «ليتحمل الآخرون العواقب».