قائد الجيش في أمر المرحلة: شراكة مفتوحة مع دار الفتوى لمكافحة الإرهاب واستيعاب ضحاياه المغرّر بهم
شكّلت زيارة قائد الجيش العماد جوزاف عون إلى طرابلس منعطفاً حاسماً في سياق التصدّي لحملة التشويه وإساءة السمعة التي تعرّضت لها المدينة على مدى الأشهر الماضية بهدف إعادة وصمها بالإرهاب، ورسالة واضحة إلى كلّ من يستهدف الفيحاء بأنّها في دائرة العناية المشدّدة لقيادة المؤسسة العسكرية، وأنّه من غير المسموح اختراقها أو الإساءة إلى سمعتها، لتكون الخلاصة إطلاق شراكة متكاملة بين المرجعيات الدينية والجيش، لحفظ الأمن والاستقرار ولفكفكة الملفات المرتبطة بالشبان المغرّر بهم.
ماذا قال قائد الجيش لمرجعيات طرابلس الدينية؟
توجه العماد جوزاف عون إلى سماحة مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام بالقول:«أشكركم على استقبالي في هذه الدار التاريخية العريقة التي تلعب دوراً دينياً وسياسياً واجتماعياً، وخاصة في الظروف التي نمرّ بها. وأنتم كمؤسسة روحية ونحن كمؤسسة عسكرية نقوم بواجبنا، والمؤسسات السياسية لديها واجب تجاه شعبها. وأنا أقول: نحن خدّام لدى شعبنا وليس الشعب خادماً لنا، ونحن نكمّل بعضنا».
وأكّد أنّ «شبابنا هم أبناؤنا وهم ليسوا مسؤولين عن الظروف التي يمرّون بها، كما أنّهم ليسوا مسؤولين أيضاً عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب، لكن مسؤوليتنا جميعاً أن نحتضن هؤلاء الشبان ونساعدهم على إيجاد الحلول حسب قدراتنا وإمكاناتنا، لأنهم أبناؤنا».
حسم العماد عون الموقف: «طرابلس ليست عاصمة للإرهاب، وأنا لا أسمح لأحد بمثل هذا القول. وإذا كان بعض الشبان قد تعرضوا للتغرير بهم فهذا لا يعني أنّ المدينة أصبحت إرهابية، لدينا عسكر من طرابلس وشهداء وجرحى من هذه المدينة العزيزة».
وتوجّه إلى المفتي إمام قائلاً:«موضوع الإرهاب لكم دور أساسي في مواجهته وأنتم على تماس يومي مع المجتمع في خطاباتكم وتوجيهاتكم وتعاطيكم مع الناس ونقول لمن يقترب من الشبهات إنّهم يرتكبون خطأ، وسنسعى معكم لاستيعاب هؤلاء الشبان»، لافتاً إلى أنّ أمامنا خيار من اثنين: إمّا أن نستسلم وإمّا أن نواصل مساعينا لاستيعاب أبنائنا لمصلحة شعبنا ومجتمعنا.
شدّد قائد الجيش على أنّ «الآفة الأخرى، وهي أخطر من الإرهاب، والتي تؤدّي إلى الإرهاب، وهي تعاطي المخدِّرات، وهي آفة لا تعاني منها طرابلس وحدها، بل كل لبنان يعاني منها»، و»نحن في عملنا اليومي لدينا كلّ يوم توقيفات، ونحن في أيدينا كمؤسسة عسكرية، وأنتم كمؤسسة دينية سنعمل كل جهدنا ولن نقصِّر في القيام بواجباتنا، لكنّ الوضع الاقتصادي ليس بأيدينا. نحن مسؤولون في الجانب الأمني، وأنتم بأيديكم الوضع الديني والاجتماعي، ونحن الاثنان نكمّل بعضنا البعض».
في رحاب المطرانية المارونية قال العماد جوزاف عون للمطران يوسف سويف:«نحن ندرك واجبنا عندما نرتدي البزة العسكرية فإنها تعني الاستعداد للتضحية، ووسط شعار الجيش التضحية وهي لا تكون فقط بالدم، وهذه أعلى درجات التضحية، لكنّها تكون أيضاً من خلال الجهد اليومي لأداء الواجب في ظلّ ظروف قاهرة تُفرض عليهم، ولكن نحمد الله على أنّ العسكريين مؤمنون بربهم وبقضيتهم، فهذا بلدنا وشعبنا ونحن لا نقاتل نيابة عن جهة غريبة، ولا دفاعاً عن غرباء، ونحن سنتحمل هذه الأزمة، كما تحمّلنا الأزمات السابقة، ولا بدّ من الانفراج، بعد كلّ أزمة فرج، لكن يلزمنا الصبر والجَلَد، وأن لا نفقد الإيمان والأمل».
رسائل للشراكة والتعاون وتحمّل المسؤولية
رسائل في كلّ اتجاه، وجّهها العماد جوزاف عون، أهمّها دعوة السلطة السياسية إلى تحمّل مسؤولياتها في توفير الأمن الغذائي والاقتصادي، وعدم تحميل الجيش فوق طاقته وهو الذي ينوء بأثقال تداعيات الأزمة المالية عليه، ويتعرّض لحملات التخوين وآخرها الهجوم غير المبرّر من الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله على قيادة الجيش من زاوية تلقي المساعدات الأميركية، في وقتٍ تعجز فيه حكومة الأغلبية السياسية بقيادة الحزب عن توفير الحدّ الأدنى من مستلزمات الصمود للمؤسّسة العسكرية.
أبعاد مواقف العماد جوزاف عون
– جاء توقيت زيارة العماد عون ليوقف مفاعيل الحملة التي شنّها إعلام «حزب الله» على طرابلس بهدف إلباسها ثوب الإرهاب، وهي التي احتلت موقع أيقونة الثورة بعد 17 تشرين 2019.
– يمكن اعتبار زيارة قائد الجيش لطرابلس إعلاناً واضحاً منه بأنّه لن يسمح للإرهاب باختراقها وأنّه لن يترك مجالاً لمسوّقي الإرهاب بالنفاذ إليها.
– ساوى العماد جوزاف عون بين آفتي الإرهاب والمخدرات، واعتبر أنّ الأخيرة تؤدي إلى الأولى، معلناً مواصلة الحرب عليهما معاً.
مخارج من إشكالية الإرهاب
طرح العماد عون حلولاً عملية ومباشرة للحالات التي التي وقع فيها شبّانٌ من طرابلس ضحية الاستغلال والتغرير بهم للالتحاق بتنظيماتٍ إرهابية، وذلك بالتعاون مع دار الفتوى والمجتمع الأهلي.
هذا الطرح هو سابقة فريدة وجريئة ومتقدمة، لم يسبق أحدٌ القائد جوزاف عون إليها، من وجوه عدّة، أهمّها:
– أنّ هذا الطرح يطوي كلّ فترات الظلم السياسي والأمني الذي فرضته السلطة السياسية على الجميع في لبنان، وينهي سوء الاستخدام لنظرية الأمن الاستباقي والتوقيف على الشبهة، وسوء إدارة الشأن القضائي في جوانب كثيرة تركت مظالم واسعة نتيجة التدخلات السياسية السافرة، التي لطالما استثمرت في جراحات اللبنانيين.
– أنّ قائد الجيش اعتبر هؤلاء الشبان مغرّراً بهم، أي أنّهم بنظره ضحايا قبل أن يكونوا مجرمين، وأنّ هناك اعتبارات لإنصافهم، أهمها أن لا يكونوا قد ارتكبوا جرائم على الأراضي اللبنانية، ووقف ملاحقتهم على مجرد الشبهة حول ما حصل معهم في الخارج.
– أنّ هذا التعريف يعيد التوازن إلى الواقع الأمني والقضائي، ويوقف التوقيف الطويل المدى وتأخير المحاكمات لأنّه يخفّف في الأصل من حجم التوقيفات المبنية على الشبهة.
أين مسؤولية السلطة السياسية والسلطة المحلية؟
قال قائد الجيش إنّ المؤسّسة العسكرية تبذل جهدها الأقصى للحفاظ على الأمن والاستقرار، لكنّ على السلطة السياسية أن تتحمّل مسؤولياتها في توفير الأمن الغذائي والاقتصادي، فلا يفيد الأمن من دون حلول مالية تعيد الحدّ الأدنى من القدرة على الصمود لدى المواطنين.
يحاول الجيش سدّ بعض الثغرات الاجتماعية، في مجال الطاقة والمساعدات العينية، لكنّ هذا لا يمكن أن يسدّ ثغرات غياب الدولة بأجهزتها الاقتصادية والتنموية، وهذا جوهر المسألة، فلا يجوز تحميل المؤسسة العسكرية مسؤولية الانهيار ومسؤولية مواجهته، خاصة أنّ السلطة المنبثقة عن الأغلبية السياسية تتلكأ في دعم الجيش، وسبق لمن يحتلون مواقع المسؤولية فيها أن قالوا للعماد جوزاف عون:«إذهب أنت وربك فقاتلا، إنّا ههنا قاعدون».
هذه السلطة التي تركت قائد الجيش وحيداً يواجه تحدّي تأمين صمود جيشه، تتركه وحيداً أيضاً في مواجهة حاجات الناس الذين تعرّضوا لأكبر عملية سرقة في التاريخ المعاصر، والذين يعانون أصلاً من التهميش والحرمان من الإنماء العادل.
يبدو الجيش اللبناني وحيداً في معركة حفظ الأمن والاستقرار، بينما لم تتحرّك قوى الأمن الداخلي حتى الساعة لتنفيذ ما وعد به وزير الداخلية من خطة أمنية توقف الانفلات الأمني وأحداث إطلاق النار شبه اليومية المتواصلة في المدينة، مما يوجب إعادة إحياء التنسيق بين الأجهزة الأمنية وإنشاء غرفة عمليات مشتركة تكفل ضبط الأمن وتمنع كلّ أشكال الخروقات وتحول دون استفادة المجموعات التخريبية من المسافات الفاصلة بين الأجهزة، أو من بعض حالات التباعد القائمة.
ما يبدو غير منطقيّ على الإطلاق في المشهد الطرابلسي، غياب البلدية عن القيام بدورها والاطلاع بمسؤولياتها، وهي السلطة المحلية التي بإمكانها أن تخفّف من وطأة الأزمة العميشية من خلال خطة عمل علمية تراعي واقع الناس، كما أنّ تجميد عمل الحرس البلدي يشكّل فضيحة قائمة بذاتها، منذ لحظة إحراق مبنى البلدية حتى اليوم.
لماذا لا يتحرّك الحرس البلدي لحماية الأسواق ولضبط المخالفات التي تضرب شرايين الحركة في طرابلس، ولماذا استمرار هذا الشقاق البشع في صفوف المجلس البلدي، وكيف يمكن تفسير هذا العجز المستنكر عن اتخاذ القرارات والمبادرات الضرورية لسدّ الثغرات من جانب البلدية لجهة صلاحياتها وإمكاناتها المتاحة.
فرصتان ومبادرتان
جولة قائد الجيش شملت دار الفتوى والمطرانية المارونية والمجلس الإسلامي العلوي، وحظي فيها كلّها بترحيب واضح وباحتضان نادر لمسؤول في الدولة. هي جولة طوت مرحلة وبدأت أخرى، وأعلنت شراكة وطنية بين المؤسسة العسكرية وبين المرجعيات الدينية، وخاصة دار الفتوى في مواجهة تحديات الإرهاب والانهيار.
يقف أهل طرابلس والشمال هنا أمام فرصتين ومبادرتين:
– الفرصة الأولى: تفكيك عناصر التوتر الأمني واستعادة العلاقة الوطيدة بين شريحة سبق لها أن عانت بسبب تحولات وجور السلطة السياسية.
والمبادرة، هي أن تقوم دار الفتوى والهيئات الإسلامية بخطوتين هامتين: عقد ورش عمل للعلماء والعاملين في الحقل الديني لوضع استراتيجية واضحة للتصدي للفر المتطرف بشكل محترف، عبر المنابر والتدريس الديني ووسائل التواصل الاجتماعين، وتشكيل لجنة قانونية تتولى تفكيك الملفات وتصفية كلّ مفاعيل التغوّل السياسي في الأمن والقضاء.
– الفرصة الثانية: هي تطوير الشراكة الوطنية بين الجيش ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي، والعمل على الاستعداد للمرحلة الآتية، وهي الأقسى اقتصادياً ومعيشياً، من خلال صيغة تتمكن من استقطاب اهتمام المجتمعين الدولي والعربي.