في هذه الأيام قبل نيف وعقد من الزمان، فجرت الجماهير التونسية ثورتها في وجه ديكتاتورية السلطة الحاكمة حيث كان المثال الوحيد للثورة الناجحة في «الربيع العربي»، وكان ذلك ببعث رئيسي من الحركة العمالية في البلاد.
وفي الأماكن حيث للرأي العام قيمة، تتصدر الحركات العمالية نضال الطبقات المحتاجة، أما في لبنان فإن الوضع بالغ التعقيد، فتاريخ 17 كانون الأول 2010 في تونس هو غيره 17 تشرين الأول 2019 في لبنان الذي أسس لما بعده رغم إخفاق معظم شعاراته.
تفتقد الجماهير التي احتشدت في الساحات وغيرها في نضال مستمر منذ سنوات طويلة، للأب الذي احتضن الجماهير التونسية قبل سنوات عشر. لم يسأل الذين نزلوا الى الشارع منذ 17 تشرين عن حركة نقابية موحدة وفاعلة تحتضنهم، فـ»الإتحاد العمالي العام» بات منذ سنوات طويلة جثة هامدة لا ينفع معها أوكسيجين السلطة التي هيمنت عليها لتلغي دورها. ورغم ذلك فقد حفلت التحركات الشارعية بفاعليات نقابية لإتحادات ونقابات خارج وصاية أحزاب الحكم.
أبو حبيب: الحد الأدنى 675 ألف ليرة!
لكن نقابيي الزمن العذب الذين يعايشون نبض ثورة اللبنانيين على واقعهم المزري اليوم والذي جاء أصلا نتيجة فساد أهل الحكم، يتوقفون ملياً عند الحدث الحالي متأملين ما بعده.
يستذكر النقابي المخضرم أديب أبو حبيب أحداث الماضي رابطا إياها بالحاضر وبالمستقبل. «لا يمكن أخذ هذا الحدث منفصلا عن إرهاصاته الموضوعية السابقة، ويجب السؤال لماذا خرج 17 تشرين الى العلن؟»، يقول مفتتحا حديثه الطويل لـ«اللواء» بسؤالين تعجبيّين: هل من الطبيعي أن يكون الحد الادنى للأجور في لبنان 675 ألف ليرة؟ هل من المنطقي أن يعود آخر تصحيح للأجور الى العام 2012؟ علما أنه حسب النص القانوني الذي يحدده مرسوم رسمي وقانون العمل اللبناني، فيجب إعادة النظر بالحد الادنى للأجور والتضخم كل سنتين على أقل تقدير! وهو ما يعني مخالفة من السلطات السياسية للقانون في الوقت الذي تقول فيه الدراسات الاقتصادية إنه اذا كان مقدرا للحد الادنى أن يكون كافيا لسد حاجات الاجير وعائلته، فيجب أن لا يقل عن مليون و250 ألف ليرة، طبعا هذا قبل التصاعد الجنوني في سعر صرف الدولار.
هو ينطلق من هذه المقدمة ليؤكد أن الأمر قد انعكس على معيشة الناس والعمال وعائلاتهم وهو ما كان على قيادة الحركة النقابية ممثلة بـ»الإتحاد العمالي العام» التصدي له عبر الضغط على السلطات السياسية المتعاقبة لفرض تصحيح للأجور. وإذا ما عدنا الى مراسيم صدرت أثناء الحرب الاهلية، فقد كان أكثر من مرسوم في السنة يصدر لهذا الأمر أحياناً، وذلك بفعل ضغط الحركة النقابية بقوتها ووحدتها.
إتخذ القادة النقابيون في تواريخ سابقة القرار بتوحيد جهود العمال وترك الصراعات السياسية والايديولوجية جانبا. ولعل التظاهرة الشهيرة في العام 1987 بدعوة من «المؤتمر النقابي الوطني» بمشاركة عشرات الآلاف، قد إختصرت ذلك وهي التي انطلقت في عز الانقسام الأهلي من طرفي بيروت الغربي والشرقي. «والتقى العمال في منطقة المتحف حيث أزالوا الرفوش بأيديهم والمتاريس والعوائق تحت شعارات وقف الحرب والعيش والخبز وتوفير الحقوق للعمال وحماية «الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي» من دون نسيان قضية التحرير عبر المطالبة بتحرير الجنوب والبقاع الغربي وبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها».
كسر القرار السوري.. فغطاء للتقسيم
كان «الاتحاد العمالي» في ذلك الزمان هو الدينامو الإجتماعي المحرك، وقد عقد «المؤتمر النقابي الوطني» الذي يمثل العمال والمعلمين وأساتذة المدارس الخاصة والمنظمات النسائية والطلابية.. في أكثر من مكان تبعا للظروف، في سبيل وضع إستراتيجية إجتماعية وبرنامج عمل.
يسترسل النقابي العتيق باستحضار التاريخ للدلالة على حزن الحاضر. ومنه تظاهرة 6 أيار 1992 بدعوة من «الإتحاد» برئاسة أنطون بشارة وقد تمرد فيها على قرار سوري باعتبار إضرابهم لثلاثة أيام خطاً أحمر وهو ما أبلغهم إياه حرفيا نائب الرئيس السوري المكلف بالملف اللبناني عبد الحليم خدام!
كان «الاتحاد العام» يقوم على 23 إتحادا نقابيا يشكلون الجسم الاساسي، وتم إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في الشارع بعدما إرتفع سعر الدولار الى ثلاثة آلاف ليرة، وتم التحضير لذلك عبر اعتصامات عديدة، وفي اليوم الأول للإضراب تبين دخول عوامل مخابراتية على الحدث فأعلن الاتحاد وقف الإضراب لعلمه بإخراج الاضراب عن مساره السلمي.
جاءت مرحلة جديدة إتبعت فيها قوى السلطة خطة جديدة مع عصيان قيادة الحركة النقابية عليها متسلحة بغطاء سوري. إفتتح وزير العمل حينذاك عبد الله الأمين ومن بعده أسعد حردان، خطة لإفقاد الحركة النقابية دورها عبر تفريخ النقابات والإتحادات بعد رفض «الإتحاد» هيكلية نقابية جديدة إعتبرها محاولة لوضع اليد عليه.
كان الهدف المُخطط له حسب أبو حبيب هو ضرب الحرية النقابية عبر الإشراف عليها من وزارة العمل وإبعاد اليسار التاريخي عن قيادة الاتحاد بواسطة انشاء إتحادات ونقابات جديدة على قاعدة الطوائف والمذاهب إضافة الى قوى سياسية سلطوية وموالية لدمشق، وكان أن أصبح الإتحاد اليوم مؤلفا من 62 إتحادا نقابياً وليصير عدد النقابات 625 نقابة بعد أن كان عددها 225 نقابة والأكثرية الساحقة وهمية.
يقول: شنت السلطة الحرب الجدية على قيادة الاتحاد برئاسة الياس أبو رزق والأمين العام ياسر نعمة وكنت أنا حينها رئيسا لمجلس المندوبين. وحسب النظام الداخلي للاتحاد فان أي اتحاد ينشأ عليه ان يتقدم بطلب الى المكتب التنفيذي الذي يعطي توصيته الى المجلس التنفيذي الذي يعطي بدوره توصية لمجلس المندوبين الذي يقر قبوله ليصبح في الهيئة الناخبة.
لم تتبع السلطة السياسية ذلك، وفرضت انتخابات قسرية بالعصا والجزرة ليسقط دور «الإتحاد» ويفقد ثقة الناس وخاصة في فترة رئاسة غسان غصن حتى أن «الإتحاد» عجز خلال دعوة للاعتصام أمام «الضمان»، عن إنزال أكثر من 100 متظاهر الى الشارع!
ويلفت الانتباه الى ان الحركة النقابية لكي تؤدي دورها يجب أن تكون لها عوامل عديدة تشكل هرمها، الاستقلالية والديمقراطية ومن ثم أن تكون فاعلة. ذلك ليس متوافرا اليوم وجل النقابات والاتحادات تجري انتخاباتها عن طريق التزكية وباتت النقابات صورية.
ما البديل للحراك؟
يشبِّه أبو حبيب حركة الجماهير بالمياه الجارفة التي تتراكم في وجه السد، فإما أن تهده أو تبحث عن مسرب آخر، وهذا حال الشرائح الاجتماعية المسحوقة التي كظمت غيظها طويلا قبل تفجره في 17 تشرين.
وجاء الأمر طبيعيا في ظل الاحتقان الاقتصادي الاجتماعي والبطالة في بلد يتحول المجتمع فيه تدريجيا الى مجتمع كهل. وقد شاب الانتفاضة عدم خلقها للقيادة، لكن الأمر مرهون بالوقت في ظل محاربة السلطة لها. ويحذر النقابي القديم من أن الخطر الاكبر هو أن تقدم السلطة مستقبلا عند إحساسها بالضيق، بتفجير الوضع طائفيا ومذهبيا في ظل خشية أمنية لدى اللبنانيين، حتى أن البعض لا يستبعد عودة مسلسل الاغتيالات.
وبالنسبة الى «الإتحاد العام»، يجب عليه أن يستعيد ثقة الناس التي انفضت عنه لأنها لم تعد مؤمنة به، وقد كشفت الانتفاضة ذلك، وكان آخر الدلائل عودته عن إضراب كان دعا إليه رفضا لرفع الدعم ثم عودته عنه من دون ضمانات عن تخلي السلطة عن مخطط رفع للدعم.
وبقرارات عشوائية كهذه، يسأل أبو حبيب: هل إختصرت مشاكل البلد برفع الدعم فقط؟ ما هو الوعد الذي قطعته السلطة الذي سبّب العودة عن الاضراب؟ ثم ماذا عن البرنامج المطلبي الكامل؟
واليوم يطرح أبو حبيب فكرة تقوم على تلاقي الاتحادات الجديّة والنقابات والجمعيات عبر هيكلية نقابية قائمة على 18 قطاعاً كما إقترح «الإتحاد» سابقاً، للتوصل الى صيغة لاحتضان هذا الحراك الشعبي.
وتزامنا مع ذلك يجب مؤازرة حركة الجماهير المنتفضة في الشارع التي وإن تعثرت، لا يمكنك محوها، لكن الأهم ان لا يندفع البعض في الإتجاه الخطأ والنزاع الداخلي.
كما يجب حماية الحراك من الإختراق، ويقدم أبو حبيب مثالا مفصليا في التاريخ يجب الإحتذاء به هو إضراب عمال شيكاغو في الأول من أيار في الولايات المتحدة. فقد أدخلت السلطة عناصرها من الشرطة داخل المتظاهرين الذين أطلقوا النار في اتجاه الشرطة فتم اعتقال القادة النقابيين وإعدامهم. ومنذ ذلك الحين رسّخ تاريخ الأول من أيار حضوره عيدا للعمال بعد تبنيه من قبل النقابات الأميركية والأوروبية في فرساي.
أما لناحية الاتهام بالعمالة للسفارات، يسخر النقابي العتيق من ذلك الإتهام ويقدم حادثة طريفة كمثال ختامي: كان الرئيس السوفياتي الأسبق نيكيتا خروتشوف حاضرا في مؤتمر للأمم المتحدة، فسأله الصحافيون عن الستار الحديدي في ذلك الزمان فكان رده «أنا مزارع في الأصل وكنت أستعمل السياج لمنع الخنازير البرية من الإقتراب». ويضيف أبو حبيب خاتماً: لعل سياجنا لقطع الطريق على تدخل السفارات إذا كان موجوداً هو بإيجاد الحل المتكامل للقضايا الاقتصادية والإجتماعيةوإعادة الاموال المنهوبة وإجراء الاصلاحات الضرورية والتحقيق الجنائي وحماية أموال المودعين وعدم مد اليد إلى المال العام.