الحرص على مصالح الكادحين يبدأ باستعادة الدولة من منظومة المافيات والميليشيا
العمال مشغولون في إيجاد التوليفة التي تسمح بإطالة دخلهم أياماً قليلة، واتحادهم العام مشغول بأمر نفسه. ففي الوقت الذي تمر فيه دقائق النهار دهراً على الكادحين الباحثين عن ثمن ربطة خبز وأجرة الطريق للذهاب الى أعمالهم والإياب منها، لاقت قيادات الاتحاد العمالي العام الوقت الكافي لتأجيل اجتماع لجنة المؤشر المقرر يوم أمس والسفر إلى الخارج.
بدلاً من استغلال كل دقيقة للبحث في السبل الآيلة إلى توفير الأمنين الاجتماعي والاقتصادي للعمال، أرجئ اجتماع اللجنة المسؤولة عن تصحيح الأجور أسبوعاً إضافياً. حيث أعطيت الأولوية لتعزيز روابط العمل مع الأتراك.
تقويض العمل النقابي مستمرّ
هذا التصرف الذي يضع هموم ومشاكل العمال على درجة منخفضة في سلم أولويات الاتحاد العمالي العام لا يستغربه رئيس مجلس المندوبين السابق في “الاتحاد” النقابي أديب أبو حبيب. فـ”الحركة النقابية التي كانت الرافعة و”الدينامو” المحرك للقضايا العمالية والاجتماعية والوطنية ضربت في الصميم منذ نهاية الحرب الأهلية. وتحديداً بعدما تولى عبدالله الأمين وزارة العمل في حكومتي رشيد الصلح ورفيق الحريري الأولى. حيث لجأت السلطة السياسية إلى تفتيت الحركة النقابية من خلال تفريخ الاتحادات والنقابات وإخضاع قياداتها لتهديد وترغيب تحالف “الميليشيا – رأس المال”. فارتفع عدد الاتحادات التي تشكل الاتحاد العام من 22 اتحاداً تضم 225 نقابة إلى 62 اتحاداً و625 نقابة. وأصبح الاتحاد يشبه “مارداً كبيراً بقدمين من خزف”، بحسب توصيف أبو حبيب. “إذ يعجز هذا الكم الكبير من النقابات عن إنزال 10 محتجين إلى الشارع أو حتى فرض موقف، في حين أنزل المؤتمر النقابي الوطني في العام 1987 تظاهرة من 300 ألف مشارك اتت من قسمي بيروت الغربية والشرقية، والتقت عند المتحف للمطالبة بوقف الحرب وحماية العمال”.
زيادة الأجور ليست الحل
هذا النهج المستمر منذ التسعينات فُضح على الملأ بعد 17 تشرين الاول من العام 2019 مع انكفاء الاتحاد عن الحراك الشعبي، وتحولت الفضيحة “مجلجلة” مع موقفه الضعيف في لجنة المؤشر. فالاتحاد غائب عن الأزمة غير المسبوقة في تاريخ لبنان، حتى لو كان حاضراً في الشكل. وهو يتحرك غب الطلب وليس “إستناداً إلى برامجه ودوره الاقتصادي والاجتماعي”، برأي أبو حبيب. فـ”حماية الأمنين الاقتصادي والاجتماعي لا تكون في هذه المرحلة الدقيقة بزيادة من هنا وأخرى من هناك لا تدخل في صلب الراتب، أو حتى بتصحيح الأجور، إنما بالضغط لتصحيح الخلل في النظام الاقتصادي الذي أظهرته الأزمة؟، وبوضع رؤية اقتصادية شاملة، واستعادة الأموال المنهوبة، ووقف التهرب والتهريب الضريبي. حيث أن نصف المؤسسات غير مصرحة عن عمالها، والنصف الآخر يصرح عن أجور أقل من الحقيقية”. وعليه فان الحرص على مصالح العمال والموظفين يبدأ بالضغط لاصلاح الوضع الاقتصادي وليس بالموافقة على عمليات تجميل تخفي التشوه وتبقي على المرض.
ما نفع الأجور إذا أقفلت المؤسسات؟
الأوضاع المأسوية للعمال تترافق مع إقفالات بالجملة للمؤسسات التجارية والمصانع والورش الزراعية. حيث تُبين الأرقام قبل ثلاثة أشهر من اليوم أن أرباب العمل تقدموا بصرف نحو 70 ألف عامل. وهذا الرقم قد يكون وصل إلى “100 ألف اليوم”، يقول أبو حبيب. و”عليه فان المقاربة الأساسية دقيقة، ويجب أن تأخذ بالاعتبار استمرار المؤسسات. وتحديداً الصناعية منها. وذلك حفاظاً على فرص العمل القائمة، وافساحاً في المجال أمام توليد فرص عمل جديدة”. فالمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور إلى 7 ملايين ليرة عادلة. والعمال يستحقون فعلياً تقريش ما كانوا يتقاضونه بالليرة على دولار 1500، وضربه بسعر صرف اليوم. إنما هذا الأمر “سيؤدي حكماً إلى ضرب المؤسسات الانتاجية وزيادة المأساة”، برأي ابو حبيب. “خصوصاً مع غياب الدولة الفاضح عن تأمين أبسط متطلبات القطاعات الانتاجية من كهرباء ومواصلات ووسائل نقل وحماية من التهريب والإغراق… وغيرها الكثير من الشوائب التي تزيد الكلفة على المؤسسات وتقلل من قدرتها التنافسية”. فـ”حماية العمال لا تكون بتصحيح الأجور فقط، إنما بالضغط لاجراء الاصلاحات الأساسية والجوهرية في بنية الاقتصاد. والنقاش مع أصحاب العمل”، من وجهة نظر أبو حبيب. “أكثر من ذلك، فالحركة النقابية أيام مجدها في خمسينات وستينات القرن المنصرم كان مطلبها الأول حماية الصناعة الوطنية. لانها تولد فرص العمل وتزيد الدخل القومي. وعندما نحمي انتاجنا الوطني نكون نحمي العمال تلقائياً”.
الوثيقة البرنماجية ما زالت تصلح
الصحوة المفاجئة للاتحاد العمالي العام لتصحيح الأجور كان يجب أن تبدأ منذ العام 2014. حيث ينص قانون العمل في إحدى مواده على وجوب إعادة النظر في الأجور كل سنتين مرة على الأقل. وهذا ما لم يحدث منذ العام 2012 تاريخ إقرار آخر زيادة على الأجور. وذلك على الرغم من التضخم وتآكل المعاشات والتعويضات وحرمان العمال من أبسط حقوقهم المعيشية. اليوم وأمام هذا الواقع من المفيد جداً بحسب أبو حبيب “استعادة الوثيقة البرنامجية التي طرحتها الحركة النقابية في المؤتمر النقابي الوطني في دورته السابعة سنة 1996. ولا سيما أنها تحدد برنامجاً اجتماعياً اقتصادياً رؤيوياً للحركة النقابية لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والوطنية. كما أنها تتضمن مشروع هيكلية نقابية قائماً على 18 اتحاداً، واعطاء الحق لموظفي الدولة بانشاء نقابات تجمعهم”.
تغيير ديموغرافي
عدم التصدي جدياً لما يجري قد لا يقف عند حدود العجز عن حماية القدرة الشرائية للمواطنين ودرء البطالة، إنما “السير في مشروع تهجير جماعي”، يقول أبو حبيب. و”هذا ما يمكن الاستدلال عليه من خلال استصدار أكثر من 800 ألف جواز سفر مؤخراً، تعود بأغلبها إلى شباب في عمر الانتاج”.
أمام كل التطورات الخطيرة المتسارعة يَشغل الاتحاد العمالي العام نفسه بأمور ليست ذات أولوية ويمكن تأجيلها بحسب الكثير من الاصوات المتابعة المعارضة، بينما العمال مشغولون بأمور مصيرية. الامر الذي يذكّر بالمثل الشعبي القائل “الناس بالناس والقطة بالنفاس”.