IMLebanon

تحدّيات تركة عون بعد مغادرته بعبدا إلى الرابية

 

 

يغادر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قصر بعبدا، تاركاً وراءه إرثاً سياسياً ومجموعة انتظارات حول موقعه في التركيبة السياسية، وعلى كتفه حزب سياسي سيكون خاضعاً بعد الآن للمعاينة، ومجموعة مرشحين وقوى سياسية ستتجاذب تركته

 

كان العماد ميشال عون يحلم بالرئيس كميل شمعون. صورة شمعون شكّلت له، ولاحقاً لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، مثالاً يُحتذى في الموقع الذي حفره شمعون في البيئة المارونية سياسياً وشعبياً. وقد يكون ذلك أحد العناصر التي جعلت علاقة عون بالراحل داني كميل شمعون وطيدة، بخلاف موقف النائب السابق دوري شمعون المعروف بخصومته الحادّة لعون ومواقفه السياسية.

 

أراد عون أن يكون عهده وممارسته السياسية على مثال شمعون فلم ينجح في الوصول إلى عهد الازدهار والعز بعدما استفحل الانهيار في شكل غير مسبوق في حياة اللبنانيين. ويريد أن يكون بعد نهاية عهده كما أصبح شمعون بعد انتهاء ولايته زعيماً لا يُقارن. ورغم أن رئيس الجمهورية تحوّل إلى أحد الزعماء الموارنة منذ التسعينيات، إلا أن وصول رئيس الجمهورية إلى نهاية عهده يسحب حكماً من تحت قدميه جزءاً أساسياً من السلطة والحضور. وفي حين حدّد رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في خطابه الأخير في ذكرى 13 تشرين معالم المعارك التي سيخوضها عون أو يستكملها بعد خروجه من بعبدا مع التيار، وهو ما لم يستطع تحقيقه خلال وجوده رئيساً للجمهورية، يفترض التوقف عند سلسلة ملاحظات تواكب انتهاء عهد عون وما سيكون عليه مصير رئيس الجمهورية والتيار الوطني.

 

أولاً، لا تشبه حالة عون في خروجه من القصر حالة رؤساء سابقين، أولاً، لجهة السن وهذا أمر إنساني لكن لا يمكن تجاوزه، إذ إنه يخرج من الرئاسة وهو يقترب من التسعين، في حين خرج شمعون من القصر في الـ58 والرئيس أمين الجميل في الـ46. والاثنان حافظا على موقعهما الماروني المسيحي داخل التركيبة السياسية بمستويات مختلفة، فخاض الأول معارك على مختلف الأصعدة، من الحلف الثلاثي والجبهة اللبنانية ودوره في الحرب وزيراً ومرشحاً دائماً لرئاسة الجمهورية. أما الثاني فخاض معارك مع القوات وداخل حزب الكتائب وخارجه إلى أن استردّ الحزب بعد مخاض طويل.

ثانياً، في وجدان كل ضابط وإداري ووزير ونائب تصبح كلمة «سابق» ثقيلة وفي غير محلها. قلة من السياسيين عرفوا كيف يتعاملون مع الخدمة العامة، كما يفعل ساسة غربيون، فيبقون في مقدم الحدث ولو من دون موقع وظيفي، أو يتراجعون إلى الصف الخلفي من دون ضجيج، ويتأقلمون مع انتهاء عهدهم. صحيح أنه من الصعب تصوّر عون من دون دور سياسي فاعل، إلا أن المشكلة لا تكمن فقط في طموح المسؤول «السابق» للبقاء قائداً تنتظر مؤتمراته الصحافية وإطلالاته ومواقفه، بل بمجموعة من السياسيين والاقتصاديين ورجال الأعمال الذين سينفكون عنه شيئاً فشيئاً. وهذه طبيعة الطبقة السياسية والمالية في لبنان، ومن لم ينصع لتعليمات رئيس الجمهورية لن يمتثل لرغبات رئيس سابق، بمن في ذلك مقرّبون من حلقة التيار وخارجها.

على مدى ثلاثين عاماً انحسرت الحالة العونية داخل الجيش

 

ثالثاً، لا يمكن لأي طرف خصم أو حليف التقليل من دور عون وأهميته كسياسي محنّك منذ التسعينيات. لكن إلى جانب عون نشأت قيادة جبران باسيل في السنوات الـ17 الأخيرة منذ عام 2005 وهي قيادة أظهرت حضورها الطاغي سلباً أو إيجاباً، إذ عرف باسيل كيف يطوّع أحياناً الإعلام وأحياناً الطبقة السياسية لخدمة مشروعه، ولو اصطدم المشروع بحائط مسدود أو نجح فيه. وقيادة باسيل، بحكم طبيعة المناصرين والمحازبين، ستصبح في ظل عون أكثر حضوراً وترسّخاً، فمواقف رئيس الجمهورية (السابق) لن تبقى فاعليتها بعد أسبوعين، كما هي حالها اليوم. وستعود الكلمة الفصل المنتظرة في تحديد وجهة الحدث السياسي للتيار من الآن وصاعداً، إلى باسيل رئيس أكبر الأحزاب المسيحية والكتلة النيابية، في انتظار ما ستكشفه الأيام المقبلة من تعثر في بنية التيار وقاعدته، وهذا أمر منفصل تماماً. وهو اختبار فاعلية باسيل وامتحان لقيادته بعد انحسار موجة الاحتفالات بخروج مشرّف لعون من بعبدا، ومدى التزام المعيّنين في مراكز إدارية حساسة باستمرار ولائهم لباسيل.

رابعاً، دخل عون إلى قصر بعبدا على كف تسوية سُنية – مسيحية – شيعية، لكنه يخرج من دون مواكبة سُنية – مسيحية، وفي ظل تباين تام مع بكركي، بل بتسوية الترسيم البحري التي ظلّلها اتفاق مع حزب الله أولاً وآخراً. وهذا يعيد عون إلى المربع الأول الذي انطلق منه حين عاد إلى لبنان عام 2005 وصاغ ورقة التفاهم مع الحزب عام 2006. وهذا ليس أمراً بسيطاً في حياة رئيس للجمهورية يعود إلى البقعة الأضيق في مسار حياته السياسية، وسيكون من الصعب تجاوز التيار لهذه الحالة في خضمّ معركة رئاسة الجمهورية وكثرة المرشحين الذين سيتحررون من عبء سطوة العهد الذي كان يعدّ باسيل لخلافته.

 

خامساً، أسّس عون لحالة عونية عسكرية داخل مؤسسة الجيش. لكن، على مدى ثلاثين عاماً، انحسرت هذه الحالة، والضباط الذين كانوا يوالون عون لخدمتهم معه مباشرة إما تقاعدوا وإما تبدّلت مواقعهم، بمن فيهم ضباط ما يسمى دورة عون 1994. ورغم أن جيلاً عونياً جديداً نشأ والتحق بالمؤسسة العسكرية، إلا أنه صار في ظل قيادتين للجيش مع العماد جان قهوجي والعماد جوزف عون حالة محصورة، وتوازي بأهميتها حالات الضباط الملتزمين بأوامر قيادتهم، لكن لهم ضمناً انتماءات «طبيعية» إلى أحزاب وقوى سياسية أخرى، سواء أكانت مسيحية كقوات أو كتائب أم إسلامية كتيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل، وهذا أمر معروف، ولو أن الجيش يحرص على التأكيد على إبعاد الضباط عن الولاءات السياسية. هذا يعني أنه لن يبقى لعون لدى خروجه النفوذ ذاته الذي كان يملكه قبل أن يصبح رئيس جمهورية أو خلال توليه بفعل قيادته المباشرة للجيش ولبعض المراكز العسكرية الحساسة، أو للواء الحرس الجمهوري. بالنسبة إلى الجيش يصبح عون رئيساً سابقاً للجمهورية، يتمتع بنفس الحماية والعناصر الذين يُؤمَّنون للرؤساء السابقين كأمين الجميل وإميل لحود وميشال سليمان، وجميعهم يختارون من سليتحق بهم من مقرّبين منهم، سواء من الجيش أو من أي جهاز آخر، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون من أمن الدولة، وعادة لا تقف القيادة العسكرية عائقاً في وجه طلباتهم، وهذا ليس جديداً. أما نفوذ رئيس التيار الوطني الحر فسينسحب بدوره بحكم الأمر الواقع، مع العلم أن باسيل وقيادة الجيش ليسا على وحدة حال مزمنة منذ حادثة قبرشمون وصولاً إلى طلبات باسيل في التعيينات العسكرية التي لم تلبّها قيادة الجيش والخلاف المزمن مع قيادته. وخروج حزب التيار من قصر بعبدا سيُخرِجه حكماً من تأثيرات مباشرة على القيادة التي سيصبح عمادها جوزف عون في الصف الأول من المرشحين.