دخل العماد ميشال عون الى بعبدا بهمروجة أطلق عليها كعادته ألقاباً فضفاضة وفارغة من أي معنى، تتويجاً لحملة الشعارات التي تميزت بها مسيرته. دخل بهمروجة الرئيس القوي، وبيّ الكل، وسيخرج بهمروجة «معك» وبأهازيج البطولة، وبتفضيل الرابية على بعبدا، كأن بعبدا لم تكن الحلم ولم تكن محور بروباغندا الرئاسة القوية وحقوق المسيحيين. نعم لقد أصبحت الرابية أهم من بعبدا بعد ان انتهت ولاية السنوات الست بكوارث غير مسبوقة.
لهذا وجب سؤال الرئيس عون عن سبب تدميره كل ما هو قائم في لبنان من اجل الانتقال من الرابية الى بعبدا. وجب سؤاله بمفعول رجعي يعود للعام 2016 وما بعد العام 2016: لماذا قبلت ان تعطل البلد بسلاح «حزب الله» لسنوات كي تنتقل من الرابية الى بعبدا ما دامت الاقامة في الرابية أكثر جدوى بالنسبة لك؟ طبعاً الجواب العوني سيكون مزيداً من الاهازيج والشعارات التي يناقض بعضها الآخر، على وقع الانهيار المتسارع. فمن دخل الى بعبدا ببندقية المقاومة، ومن دخل بعبدا ليورث صهره بدءاً من اليوم الثاني للرئاسة، ليس لديه الا الهروب الى الامام، ركضاً الى الرابية، كي يبدأ فصلاً جديداً من التعبئة والتضليل وتشويه الحقائق.
يستحضر مشهد الرئاسة الخائبة في لبنان مشهداً عراقياً معاكساً حتى النقيض في العراق. رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يخرج من الحكم بهدوء وابتسامة ورضى عن النفس، بعد سنوات من الحكم قادها بروية وحكمة وتخللها، كما في بيروت، ثورة تشرين واغتيالات بحق الناشطين وقمصان سود أكثر عنفاً وثلاث محاولات اغتيال طالته ولم يتراجع. في المقارنة بين الكاظمي وعون ظلم كبير للبنان. فالرجل الذي انتخب رئيساً للجمهورية وهو على رأس تيار سياسي كبير، والذي انتخب بعد ان روضت له كل الاعتراضات، فنال الموافقة السنية والدرزية وشبه الاجماع المسيحي ليعطى فرصة تاريخية لبناء دولة لو اراد، صرف كل وقته وجهده في تدعيم النفوذ الشخصي على حساب الدولة والاصلاح، وطالب بحصته وحصة صهره مهدداً بالتعطيل. إنتُخب رئيساً فأطلق حملة التوريث في اليوم الثاني لانتخابه، فانفجرت بوجهه ثورة شعبية عارمة، حاول ان يصور نفسه ضحيتها، فيما كان سلوكه تقاسم النفوذ والحصص مع أركان منظومة إدّعى مواجهتها.
أما مشهد بغداد، فكان على نقيض ذلك. رعى الكاظمي قيادة مرحلة متفجرة ومحمومة في العراق بكل هدوء وصبر، وأجرى أنزه انتخابات نيابية في تاريخ العراق، وتحمل تجاوزات كادت قبل اسابيع أن تؤدي الى حرب اهلية، ومع ذلك كله خرج من الحكم وهو يسلم عراقاً أفضل على الصعيدين الاقتصادي والتنموي. كذلك بنى الكاظمي للعراق دوراً إقليمياً يسجل للبلد المنهك. مقابل الدور العربي للعراق، كان الرئيس عون يجهز على ما ورثه من علاقات عربية، فوضع الوزنات في طهران، ودُمرت الروابط مع العرب مع كل ما يعني هذا التدمير من انعدام للفرص وللأمل.
مشهد متناقض في عاصمتين تتشاركان الأزمة المستوردة من طهران، إنما الفرق في قماشة رجال الدولة الذين يستطيعون تخفيف المآسي والدموع، أما النموذج النقيض فهو الوصفة الأسرع الى مسلسل من الانهيارات لا ينتهي.