لم ينتظر رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون انتهاء فترة نقاهته واستراحته فبادر إلى قطعها والتوجّه إلى مقرّ حزبه “التيار الوطني الحر” في مبنى ميرنا الشالوحي، لكي يجدّد العهد والوعد ببداية جديدة له ولـ”التيار” في استئناف الحرب على الفساد والفاسدين الذين منعوا قيام الدولة، وكأنّه لم يكن رئيساً للجمهورية طوال ستة أعوام أمضاها في القصر الجمهوري متسلِّماً الرئاسة من الفراغ ومسلِّماً الرئاسة والجمهورية إلى الفراغ.
خلال إلقائه خطاب الوداع في 30 تشرين الأول على مدخل القصر الجمهوري في بعبدا كان الرئيس عون يودِّع القصر والجمهورية ولكنّه لم يكن يوحي بأنّه يودِّع السياسة. خرج محبطاً ومهزوماً في معركة طويلة انتهت في غير مصلحته وأدت إلى النتائج العكسية للشعارات التي كان يتمناها أو يحكي عنها قبل الرئاسة وخلالها والتي عاد إلى الحديث عنها بعدها.
بين الدخول والخروج
دخل عون إلى الحكم في ظلّ شبه إجماع وتسليم بإعطائه الفرصة ليحكم ولكنّه على عكس ذلك أراد أن يتحكّم، فأفلتت الأمور من بين يديه وتفرّق من حوله الذين ساروا في التسوية التي أوصلته إلى قصر بعبدا. أتى عون إلى السلطة ومعه تأييد مسيحي ولبناني كبير وخرج منها بخسارات متتالية امتدّت إلى داخل تيار الأنصار والمؤيّدين، الذين انفكوا من حوله وراحوا يعلنون أنهم كانوا عمياناً فأبصروا ومغشوشين فاكتشفوا حقيقته وحقيقة شعاراته الخادعة. وامتدّ الخلل إلى داخل «التيار» الذي أسسه بالذات والذي أمّن انتقال الرئاسة فيه إلى صهره النائب جبران باسيل. كان يتباهى بأنه يحتكِر التمثيل المسيحي وصار يعاني من فقدان القاعدة الشعبية ومن تحوّله مع «التيار» إلى حالة شبه منبوذة، تمّ تحميلها مسؤولية خيبات الأمل من كل الذين راهنوا يوماً من الأيام على أنّ عون يمكن أن يكون المنقذ، فتحطّمت الصورة التي ألصقها بنفسه وانكشف الستار الذي اختبأ وراءه طوال أعوام.
الظهور في الإستراحة
لم يظهر الرئيس عون بعد خروجه من القصر إلّا في مناسبتين بين أهل البيت الباقين معه. الأولى عندما زار مقر تلفزيون الـ»أو تي في» والثانية عندما ركب سيارة تسير على الطاقة الكهربائية قادها صهره جبران باسيل وأخذه بجولة في شوراع مدينة البترون القديمة. كان جبران يقود وكان عون في السيارة كأنه مسلِّم أمرَه لهذه القيادة التي عمل في سبيل إيصالها إلى رئاسة «التيار» ونجح، وفشل في حملها إلى رئاسة الجمهورية. بدا عون وكأنّه مستسلم لهذا القدر الذي اختاره ولكنّه استسلام يذهب إلى أقصى الحدود، إلى الحدّ الذي يجد فيه نفسه أنّه مضطر إلى دعم خيار بقاء باسيل في رئاسة «التيار»، وإلى استعادة المبادرة وتوظيف كل رصيده المتبقي من أجل المحافظة على ما تبقى من صورة «التيار».
بعد خروجه من القصر ساد الصمت على حركة الرئيس السابق للجمهورية. أوحى من خلال بيانات مكتبه أو تياره أنّه في استراحة وإجازة ستمتدّ حتى ما بعد عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة. فقد تعب من الرئاسة ستّ سنوات ويريد أن يستريح ليقرّر بعد الإستراحة وفترة التأمّل كيف ستكون عودته إلى ممارسة نشاطه السياسي. كان من المسلَّم به أنّه لن يعود إلى رئاسة «التيار» فهذه المسؤولية أناطها منذ العام 2015 إلى صهره جبران باسيل ليتفرّغ هو إلى القضايا الكبرى. أما وقد انتهى من هذه القضايا فقد وجد مجدّداً أنّه مضطر للعودة إلى «التيار» الذي لم يعد بخير.
عون يريد رئيساً
في 20 كانون الأول الحالي قطع عون إجازته وعاد إلى مقرّ «التيار» في ميرنا الشالوحي. هذا المقرّ ملتصق برئاسة باسيل أكثر مما هو ملتصق بعون الذي كان يدير «التيار» من دارته في الرابية التي كانت بمثابة مقرّ قيادة «التيار». من هناك أوحى عون من خلال كلمته أنّه سيكون أمام مهمة جديدة وكأنّه في بداية جديدة بينما كان من الطبيعي أن يخرج إلى الراحة لأسباب تتعلّق بالعمر وبالتجربة وبتداول السلطة. فهو ليس كميل شمعون الذي خرج من الرئاسة شابّاً وقائداً وزعيماً شعبياً استطاع أن يبقى ويستمر في القمة السياسية والقيادية حتى انطفأ نجمه عام 1987 وعاد إلى تراب دير القمر. وهو ليس فؤاد شهاب الذي أمّن انتخاب شارل حلو خلفاً له وحارب من أجل إيصال الياس سركيس في العام 1970، وبقي رمزاً للرئاسة القوية حتى من دون أن يكون له حزب أو ذرية.
تحدّث عون في مقرّ «التيار» في ميرنا الشالوحي وكأنّه لم يكن رئيساً للجمهورية. «جايي زوركم وشقّ عليكم لأنّي اشتقتلكم» قال. وأضاف: «نحنا متل ما قلت وقت اللي تركت بعبدا نهينا مرحلة وبدنا نبلّش مرحلة جديدة. مرحلة مش بعيدة عن اللي خلّصناه. كشفنا مكامن الضعف كشفنا العاطلين المستلمين الدولة. وهلق بدنا نكمّل. بدنا نكمّل اللي عملناه بالأول لأن ما بيسوى الواحد يعمل تلات أرباع الشغل ويترك الربع الأخير مش جاهز… إذا ما تغيّرت الزمرة الحاكمة حالياً ما في وطن بينبنى لأن اللي حكم 32 سنة بهالطريقة هيدي بِسَلبُهن الأموال العامة وإفقار الشعب وكسر الخزينة، يمكن هيدي بعد إلها آثار كثيرة بعدنا بأولها، وإذا طوّلِت نكبة… شو شغلتنا من هلّق لوقتها؟ نحافظ على خطنا السياسي، خطّ المحاسبة. لازم نحاسب وحتى نقدر نحاسب كل الدولة بدّها إعادة بناء… ما بقا فيه الواحد يتَّكِل على دولتو… نحنا بدنا رئيس يحمل الصدمة ويكمِّل الطريق…».
هل كان رئيساً؟
هل هي حالة إنكار أم حالة عدم وعي للحالة التي مثّلها عون نفسه خلال ولايته؟ عن أي دولة يتحدّث؟ وماذا كان يفعل في بعبدا خلال ستة أعوام؟ وعن أي ثلاثة أرباع من العمل الذي أنجزه يحكي وماذا عن الربع الباقي الذي عليه أن ينجزه مع ما تبقى من تياره من الذين كانوا يستمعون إليه غير مصدّقين للوعد الجديد ويصفّقون فقط لأنّه يتحدث ويزورهم؟ عن أي زمرة حاكمة يتحدّث وهو الذي كان شريكاً في السلطة منذ العام 2005 في مجلس النواب ومنذ العام 2008 في مجلس الوزراء، ومنذ العام 2006 متحالفاً مع «حزب الله» المتحالف مع حركة «أمل» والرئيس نبيه بري؟ بدنا رئيس يحمل الصدمة ويكمل الطريق، يقول عون.
ولكن هل يعتقد أن رئيساً أهم واقوى منه سيصل إلى قصر بعبدا مثلاً لكي يقوم بما لم يستطع هو أن يقوم به؟ يتحدّث عن انهيار الدولة والمؤسسات والقضاء والأمن والإقتصاد ولا يذكر أو يتذكّر أنّ هذا الإنهيار حصل خلال سنوات عهده الستّ. أليس هو من قال إنّنا ذاهبون إلى جهنم؟ ألم يقل هذا الكلام وهو في القصر الجمهوري؟ ألم يحصل هذا الإنهيار على أيامه؟ ألم يسمع كلام البطريرك بشارة الراعي يطالبه بتحرير قرار الشرعية؟ ماذا فعل لتحرير هذا القرار؟ ولماذا سلّم «حزب الله» مسؤولية الإشراف على العهد وما تبقى من الدولة؟
تصدّع وانقسامات
تنازل عون عن الجمهورية وعن رئاسة الجمهورية وأتى بعد انتهاء ولايته ليتحدّث عن ضياع الدولة وعن المحاسبة وعن النضال الجديد الذي ينتظره وينتظر «التيار»، وكأنّه أيضاً غير مدرك لحالة «التيار» الذي يعاني من تصدعات داخلية بعد معاناة التصدعات الشعبية، حتى في صفوف الضباط الذين آمنوا بعون منذ وصوله إلى قيادة الجيش في العام 1984 وخاضوا معاركه، والذين أخذوا يكتشفون تباعاً الوهم الذي ساروا وراءه وزيف الشعارات التي رفعها، وكيف تحوّلت كل قضيته إلى مجرّد شغف بالسلطة وعملية توريث سياسية وحزبية وعائلية. في أول تشرين الثاني بعد انتهاء ولاية عون كتب الضابط المتقاعد فؤاد الأشقر الذي كان من بين أقرب الضباط إلى عون: «لنقلب الصفحة ونتمنى ان تكون صفحتنا الجديدة بيضاء. عهد ميشال عون كان فاشلاً والسبب واضح وهو تسليمه زمام الأمور للحاشية التي يديرها الصهر. فكيف لمن تسبب بالفشل وخراب لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أن يفكر بتسلّم الكرسي الرئاسي لمرة جديدة؟ كفاكم استهتاراً بعقولنا والوطن ليس لعبة ولن يكون الشعب مؤيداً لمشاريعكم المشبوهة».
منذ مدة قلب الأشقر وضباط كثيرون الصفحة ولكنّهم لم يشكِّلوا حالة انقلاب على «التيار» الذي مثّله عون وعلى الحالة العونية. لم تكن تغريدة الضابط الأشقر وحدها اللافتة ولكن تعلقيات عدد من الضباط السابقين من رفاقه أظهرت كم أن الهوّة الفاصلة بينهم وبين عون باتت كبيرة. الأمر لا يقتصر على هؤلاء الضباط وحدهم بل على الكثيرين ممن شكّلوا رافعات للحالة العونية واكتشفوا تباعاً أنهم كانوا يسيرون وراء كذبة. حتى في قلب العائلة حصل التصدّع. عندما اعترض النائب السابق العميد المتقاعد شامل روكز على الأداء السياسي الذي مثله رئيس «التيار» عديله جبران باسيل اصطدم بتبني عون لطروحات باسيل وتصرّفه وكأنّه وإيّاه واحد، الأمر الذي حمل روكز على مغادرة «تكتل لبنان القوي» وإعلان الطلاق السياسي معه ومع عون قبل أن يحصل الطلاق بينه وبين زوجته التي أخذت عليه أنّه انقلب على والدها الذي يبقى بالنسبة إليها الرمز الذي لا يمكن المسّ به. فقد سقط ما قاله عون في انتخابات 2018 عن أن «أنا شامل وشامل أنا».
الأسر الباقي
قد يكون عون هو الرمز الباقي لكثير من العونيين الذين لا يمكنهم أن يخرجوا من هذا الأسر الذي دخلوا إليه أو أوجدوه هم لأنفسهم، لأنّهم في الحالة العونية حتى من دون عون وحتى قبل أن تكون هذه الحالة التي جمعت من بين ما جمعت حالات متناقضة ومتباعدة، ولكنّها التقت حول عون وجمعتها المصالح الإنتفاعية والأحقاد السياسية، خصوصا ضد «القوات اللبنانية» التي عادت اليوم لتشكّل القاطرة التي ينشدّ إليها المسيحيون في وجدانهم وقضاياهم ومعهم اللبنانيون في معركة استعادة السيادة والقرار الحر. هذه القاطرة التي لا تشبه أبداً السيارة الكهربائية التي حملت الرئيس السابق ميشال عون في جولة ضابط متقاعد عائد من معارك كثيرة فاشلة وخاسرة أنهكت شعبه ودولته وهدمت مجتمعا ومؤسسات. لعلّ الربع الباقي الذي تحدث عنه عون واعداً بإنجازه يجب أن يكون عبور الربع الخالي في صحراء سياسية واسعة يتخللها هدوء وصمت وصلاة وتوبة ومحاسبة للذات. فما يواجهه عون اليوم هو نهاية طريق مدمّر وليس بداية طريق لدمار جديد.