من باب الإفتراض يجوز القول إن أعضاء «تكتل التغيير والإصلاح»، من نواب ووزراء الذين أحاطوا بسيد التكتل العماد ميشال عون في مؤتمره الصحافي الصارخ يوم السبت الماضي، لم يكونوا عارفين بأن زعيمهم سيقترف هذه الإنتفاضة الكلامية ضد المؤسسة العسكرية في شخص قائدها العام مثيله في الرتبة العسكرية، ويقول على الملأ بمفردات مقتبَسة من مفردات طالما وردت في تصريحات وخُطب بعض القياديين في «حزب الله» وعدد من المسؤولين الإيرانيين وبالذات بعض جنرالات «الحرس الثوري» والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد: «إياك يا جان قهوجي…».
ومن الجائز أيضاً القول إن أعضاء غرفة عمليات العماد عون لو كان سيناقش معهم ما سيقوله في حق رمز المؤسسة العسكرية وأبلغهم أنه سيخاطبه بهذه اللهجة القبضايية لكانوا، أو البعض منهم على الأقل، سجَّلوا نقطة نظام أو تمنوا على العماد عون عدم إستعمال هذه اللهجة في التخْاطب لأنها تؤذي مشاعر السبعين ألف جندي وضابط على طول الأرض اللبنانية في جميع الثكنات.
من حق العماد عون كزعيم سياسي تسجيل كل أنواع الإعتراضات إنما بتحاشي العبارات غير المستحَبة.. هذا فضلاً عن أن العسكري بطبعه هو من يقول للمدني في ظروف طارئة إياك وإياك، وذلك من منطلق الحرص على الأمن والإستقرار. أما أن يقول زعيم سياسي ذلك فهذا خروج على المإلوف… إلاَّ إذا كان العماد عون يخاطب الآخر بالصفتيْن صفة الجنرال سابقاً في المؤسسة العسكرية وصفة زعيم تيّار سياسي يُعاني أشد المعاناة نتيجة أن أحلامه ليست قابلة لأن تتحقق. وهو بأسلوب التخاطب وغرابة التحالفات السبب في أن ما حصل للجنراليْن أميل لحود ثم ميشال سليمان لن يحصل له نتيجة ذبول التأثير السوري على القرار اللبناني في شأن إختيار رئيس الجمهورية. كما أن ما حصل للجنرال السلَف فؤاد شهاب يوم 23 أيلول 1958 لن يحصل له أيضاً. ونقول ذلك على أساس أن ما كان يشغل بال فؤاد شهاب قبل أن يترأس ليست الزعامة، كما أن التوريث لم يخطر في باله بعدما ترأس ومن أجل ذلك أمضى ست سنوات هانئة ومنتجة إصلاحاً للوطن بدأت بإنقاذ البلاد وإنتهت بإنقاذ الدستور. ولعل نواياه الطيبة وصَلاته اليومية أمام تمثال العذراء في حديقة منزله هي التي صانته من مغامرة إنقلابية قام بها الحزب السوري القومي فضاع القائمون بها وضيَّعوا الحزب.
والأهم من ذلك كلّه إن فؤاد شهاب بقي الجنرال الذي يحفظ كرامة أقرانه وأبناء وطنه ونأى بنفسه عن التلاعب بأقدار الوطن. وعندما غادر قصر الرئاسة رافضاً التجديد المضمون له إختار مسكنه في جونية عملاً بقوله رداً على سائليه لماذا لا يسكن في قصر «كيف أسكن قصوراً فخمة وهناك لبنانيون ينامون في العراء…». كما أنه نادراً ما يحمل نقوداً في جيبه وواصل التقشف فلم يغيِّر سيارته الخاصة «باكار 1944» بينما ثلاثة أرباع الذين رفعوا راية التجديد لولايته كانوا كما كثيرين في زمن الجنرال الصارخ يواكبون سير موضة السيّارات موجة وراء موجة.
ويبقى إستحضار أول بيان سياسي للجنرال فؤاد شهاب مكتوب بصياغة متأنية جداً وخضع على ما يجوز الإعتقاد إلى مراجعة أكثر من مرّة قبل أن يُتلى يوم الإثنين في مثل هذا الشهر قبل 57 سنة، نضعه أمام الجنرال عون عسى ولعل يحذو الخلَف حذو السلَف عندما يخاطب الغير ويخفف الكلام إرتجالاً وبالذات في الزمن الذي يُكابد فيه أبناء الوطن مدنيين وعسكريين أقسى الظروف. وفي ذلك البيان قال الجنرال شهاب:
«لقد بلوت بعمق صعوبة الحال التي يعانيها بلدنا العزيز وعشت مع جيشنا الوطني كل المأساة لذلك فإنني مدرك تمام الإدراك جسامة التبعات التي تُلقى اليوم على عاتقي، غير أن ما إنطوت عليه نفس اللبنانيين من الخير وما تأصَّل فيهم من روح المحبة والتسامح، ونما في قلوبهم من تعلَّق بإستقلال بلادهم وتمسُّك بحرية وطنهم يبعث فيَّ كبير الثقة وعظيم الأمل أن يتغلب اللبنانيون بفضل تآزرهم ووعيهم وطيب نياتهم على الأزمة التي تمر بها البلاد، وأن يخرج لبنان وهو أشد إيماناً بنفسه واثبتُ إيماناً وأعز مكاناً…».
***
الرحمة للجنرال الهادئ والمغفرة للجنرال الصارخ، والبقاء للبنان.