سألني بعض الاصدقاء لماذا تكتب هذه الأيام خارج «مواضيع الساعة»؟ ولماذا تخالف كل ما نشهده ونعيشه حالياً من «مسرحية» انتخاب رئيس للجمهورية الى الصراعات والتجاذبات والتوترات المذهبية والطائفية والسياسية الداخلية والاقليمية؟ ولماذا تهرب من الواقع الى عالم آخر لا يمت الى حقيقة ما نعيشه في هذه الايام المصيرية بصلة؟
جوابي بسيط، لأن السياسة عندنا جامدة وراكدة وباهتة في صورتها وممّلة في تفاصيلها وهي مرتهنة للخارج، ولان ليس هناك من بين كل القوى السياسية والحزبية اللبنانية من يملك قراره السياسي الحر او حتى لديه القدرة على تغيير فاصلة في الوضع القائم بسبب ارتباط اغلبية هذه القوى بدول اقليمية متصارعة مذهبياً وطائفياً، من هنا فلا شيء سيتغير وكل شيء باقٍ في مكانه اليوم وبعد شهر وبعد سنة ولا داعي لهدر وقتكم في ما ليس له قيمة ولا منه فائدة وفي اجترار الكلام السياسي نفسه الذي يردده الجميع والتي سئمت وكفرت منه الناس…
لكن ما غفل عن هؤلاء الاصدقاء ان ما اكتبه ايضاً هو جزء من الواقع السياسي الذي له وجه آخر يبعث على الأمل والتفاؤل لمستقبل هذا البلد. وان الإضاءة على هذا الجانب المشرق لا تقل اهمية عن الإضاءة على الجانب القاتم من الصورة بفارق واحد ان الجانب المشرق من الصورة يعطي بعض الامل الى المواطن المسكين… وكذلك حتى يعرف اللبنانيون انه لا يزال في لبنان «اوادم» ومن هم جديرون بالتقدير والاحترام لأنهم عرفوا كيف يبنون مؤسسات ناجحة في وطن رهنه البعض للخارج.
اكتب في هذا الاتجاه لأنه لا يجوز التعميم والمساواة بين كل المسؤولين والقيمين على مؤسسات وادارات الدولة، وحتى لا يتحول «الآدمي» وصاحب الضمير في هذا الوطن الى فاسد اذا لم يكن هناك من يُقدّرْ عمله ويشير اليه .
من هنا وبعدما كتبت عن الجيش اللبناني ومصرف لبنان وشركة «طيران الشرق الاوسط» اتحدث اليوم عن جهاز «الأمن العام» اللبناني وسأبقى اكتب عن كل مؤسسة ناجحة في الدولة ليكونوا عبرة وحافزاً لغيرهم …
جهاز «الأمن العام» بات مؤسسة امنية يُعتّد بها وتشكل قدوة ونموذجاً ريادياً للمؤسسات الناجحة والمتقدمة بعدما حققت في خلال سنوات قفزة نوعية الى الأمام وأصبحت مواصفاتها مطابقة للمؤسسة المتطورة المنتجة التي تواكب المتغيرات والحداثة وتضع نفسها في خدمة المجتمع والناس وتحترم معايير العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وقفت المديرية العامة للأمن العام على مسافة واحدة من الجميع من دون الالتفات الى انتماءات طائفية ومناطقية وسياسية، ولم تقع في مطبّات وافخاخ التجاذبات والمصالح الفئوية، كما انها عرفت كيف تكسب ثقة المواطنين واحترامهم كونها المؤسسة الأكثر تماساً مع المجتمع المدني والمعنية بكثير من المسائل التي تهمّ المواطنين وتفيدهم في حياتهم اليومية.
انجازات كثيرة وعمليات تطوير وتحديث شهدتها المديرية العامة للأمن العام وتصبّ كلها في تسهيل امور الناس وتحسين مستوى الخدمات وتقريب الناس من دولتهم… وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر تفعيل مكتب المراجعات وتسريع المعاملات وتطويع عناصر تقنيين ذوي اختصاص واستحداث مراكز في اكثر من منطقة لتوفير عبء الانتقال على المواطنين، وتوفير نظام اتصال على جميع المستويات وفي مختلف الأوجه والظروف، وتطبيق اجراءات تحقيق حديثة وفق معايير دولية وإنشاء مركز جديد للاحتجاز والتوقيف يراعي المتطلبات الإنسانية واصدار مجلة للأمن العام لتكون صلة وصل وتواصل بين الأمن العام والرأي العام.
يُضاف الى ذلك واهم من كل ذلك المخطط الاستراتيجي الذي اُعدّ قبل ثلاث سنوات بعد دراسة معمّقة للأمن العام في لبنان بأوجهه كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والبيئية والثقافية والغذائية والطبية والموارد والطاقة من اجل التوصل الى استراتيجية امن وطنية تؤمن الاستقرار والسلام والتطور لهذا البلد وتقدم افضل الخدمات للمواطن.
كل ذلك ما كان ليتحقق لو لم يكن على رأس الأمن العام رجل ناجح ومتفوّق في عمله ومجاله بنى مؤسسة امنية على قواعد جديدة، وهو العسكري المتفاني صاحب اللاءات الثلاث : لا للطائفية والمذهبية، لا للفئوية، ولا للاحكام المسبقة على احد.
اللواء عباس ابراهيم «رجل دولة»، ورجل مؤسساتي في تفكيره وممارسته، وهو يعتبر ان المؤسسات ليست ملكاً لاحد بل هي ملك الشعب وتحت سقف القانون.
لم يترك عباس ابراهيم باباً الاّ وطرقه، ومجالاً الا ودخله، وملفاً شائكاً الا وخاض فيه وفكّكه، ولم يترك مشكلة الا وحلّها. اولى هذا الرجل وفقاً للمهام المنوطة بالمؤسسة اهتماماً خاصاً بأمور التجسّس من ضمن مكافحة الإرهاب بشقّيه الإسرائيلي والتكفيري، ونجح في تفكيك وتوقيف العديد من شبكات الإرهاب والتجسّس. إهتم وفق مفهوم الأمن العام والشامل بقضايا الأمم المتحدة في الجنوب وبمشاكل اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات، وبملف العمّال الأجانب وقضية اللاجئين السوريين الى جانب موضوع الحدود والمعابر وضبطها.
خاض عباس ابراهيم في ملفات وقضايا انسانية كان ابرزها قضية الأسرى والمخطوفين من مخطوفي اعزاز الى راهبات معلولا الى العسكريين المخطوفين وساهم مساهمة فعّالة في تحرير هؤلاء واعادتهم الى اهلهم وديارهم واديرتهم. فاستحقّ التقدير والشكر من داخل لبنان وخارجه. ولعلّ التكريم الأبلغ والأحدث هو الذي تلقّاه من حاضرة الفاتيكان ومن قداسة البابا فرنسيس شخصياً ولمرتين: قبل اشهر عندما خصّ البابا اللواء ابراهيم بالتفاتة خاصة وأشركه مع الوفد المرافق في قدّاسه الصباحي وعقد معه اجتماعاً منفرداً.
وقبل حوالى الاسبوع عندما زار ابراهيم الفاتيكان تلبية لدعوة رسمية وشخصية من الحبر الاعظم الذي كان اوفد اليه وفداً خاصاً لشكره على الجهود التي قام بها منذ مدة قصيرة في اطلاق سراح ثلاثة كهنة كانوا محتجزين لدى تنظيمات مسلّحة وتحرروا بعد سيطرة الجيش السوري على مواقع هذه التنظيمات. وحمل الوفد لوحة خاصة تحمل رسم البابا الذي وقّع عليها شخصياً وبخط يده واعطى بركته للواء ابراهيم وعائلته.
لم يسبق لمسؤول لبناني ان تلقّى كل هذا السيل من التكريم من جهات دولية ومحلية وعلى كل المستويات كما حصل مع عباس ابراهيم الذي كرّمته منظمات دولية وحكومات وسفارات وهيئات المجتمع المدني.
وقبل فترة قصيرة تم تكريم ابراهيم كذلك من الهيئات الإقتصادية بكل اركانها وفعاليتها. وهذه سابقة في لبنان. فللمرّة الأولى يكرم الإقتصاد الأمن ويعلن التقدير له والاستعداد للتعاون معه.
هذه القاعدة خرقها استثناء مع هذا التكريم الاقتصادي لأن اللواء عباس ابراهيم هو مسؤول استثنائي في وطنيته وصدقه واخلاقه وفي كونه «رجل دولة ومؤسسات» بحيث اصبح الامن العام مؤسسة يحتذى بها.