استطاعت «الأخبار» أن تأخذ من ميشال عون ما لم تأخذه وسيلة إعلام أخرى. انطباعي الأول حيال المقابلة هو: الجنرال الذي هزمنا. لماذا وكيف؟
اعتلى عون المسرح السياسي اللبناني في لحظات حرجة، وشنّ، في وقت واحد، حربين مختلفتين على جبهتين منفصلتين. واحدة ضد الوجود السوري الذي كان يراه احتلالاً، ولم نكن نشاطره الرأي، والثانية ضد ميليشيا القوات اللبنانية التي لم نكن نظن لوهلة أن المجتمع المسيحي بات يكرهها الى هذا الحد، وأنه سيتعاطف مع العماد ضدها بالشكل الذي أصبح واضحاً في ما بعد، كما لم نكن نظن أنه قادر على هزيمتها…
فضلاً عن الثمن الباهظ الذي كانت تحتاج إليه كلتا المعركتين (بشرياً ومدنياً وعمرانياً).
عند اعتلاء الجنرال المسرح السياسي العسكري، في مشهد معقّد متداخل، كنا نظن بالتأكيد أنه كالآخرين طامح للزعامة بأي ثمن. لم تكن الحرب اللبنانية، بقدراتها ومفاجآتها المؤلمة، تسمح لنا بحسن الظن. الجميع أحبطنا، ما جعل حسن الظن بالزعماء والقادة ضرباً من السذاجة المفرطة. جاءت لحظة 13 تشرين الاول عام 1990، وظن الجميع أن الموضوع انتهى، وأن المغامرة الفاشلة التي قادها الجنرال المغامر وصلت الى نهايتها، وأنه سيكتفي بالعيش بأمان في فرنسا. أما غضبه الذي يظهر بين الفينة والأخرى خلال المقابلات التلفزيونية خلال وجوده في فرنسا، فزادنا اقتناعاً بأن عودته الى لبنان ليست واردة، وأن «التاراتاتا» في نفق نهر الكلب ليست كافية لإعادته زعيماً فاعلاً. لكن الساعة أتت. جاء 7 أيار 2005، وعاد الجنرال، فاعتقدنا أن الجمهور العريض الذي استقبله انما حضر تعاطفاً: الحمد لله على السلامة وكفى. لكن تاريخاً آخر كان ينتظرنا. 6 شباط 2006 في كنيسة مار مخايل. الجنرال الذي يقاتل «المحتل» السوري بشراسة، ويحارب الميليشيات، يعقد تفاهماً تاريخياً مع المقاومة؟ هل هذا التفاهم قادر على محو كل السيئات التي تراكمت في أذهاننا عن هذا الرجل المميز؟
في عدوان تموز كان الجنرال، بكل بساطة، قادراً على أن يتنصل من هذا التفاهم. كان يمكنه أن يقول: لم يكن في حسباننا مثل هذا الامر. هذا التفاهم لا يشمل إدخال لبنان في حرب مدمرة. استخدمتم هذا التفاهم غطاءً لمغامرات غير مدروسة… إلخ.
يتطلع الى الأمة من منظار مشرقي يعي جذوره ومآله
لكن رجل الكلمة بقي عند كلمته. كلمة الشرف هي التي تميزه عن غيره، وصمد وصمدت معه المقاومة والجنوب وخرج لبنان منتصراً وخرج العدو مهزوماً مذلولاً، ولم تشرق شمس الشرق الاوسط الجديد… ثم قاد معركة الاصلاح بنزاهة، ووقف يتطلع الى الوطن، بل الى الامة، من منظار المشرقي الذي يعي أين جذوره ويعرف أين مآله. يعرف أن المسيحيين جزء لا يتجزأ من الشرق العربي الإسلامي، ويعلم أن التكفيريين أمرٌ عارضٌ مرّ مثله في التاريخ.
كل الامل في رجال مثله، صادقين، مستقيمين، ظاهرهم كباطنهم، لا يعرفون الخبث ولا النفاق. أخصامه يسلطون الضوء على أخطائه ولا يرون له حسنة، ونحن نرى أخطاءه في حجمها الطبيعي ونرى حسناته في حجمها الطبيعي، فشتان بين هذه وتلك.
أيها الجنرال الصادق المستقيم، أنت اليوم مظلوم. يظلمك بعض المسيحيين، إذ يجعلون «عملاء متقاعدين» أنداداً لك. ويظلمك بعض المسلمين، إذ يريدون أن يردوك الى الوراء وأنت تأبى إلا أن تسير الى الأمام. يظلمك الشرق والغرب والبعيد والقريب، إذ لا يريدون للبنان رئيساً مثلك، بل مثلهم.
لن تنفعك شهادتي، بل قد تضرّك بسبب المشهد المعقد، ولكن تنفعني لأنها شهادة حق ينبغي أن تقال.
بين لحظة غضبت فيها على أحد المصلين في المسجد العمري الكبير في صيدا عام 1989 ونحن نقف لصلاة المغرب، وقد «تجرّأ» على أن يمدحه خلال تلك الفترة، وغضبي على فتى من أقربائي من ضواحي طرابلس كان قد نام مع الجمهور العريض في قصر «الشعب» وفتن بتلك المظاهرات وقتها، رفضت أن يكون في العائلة وقتها من يؤيّد هذا الجنرال. بين تلك اللحظات واليوم، أقول: أيها الجنرال الصادق، لقد هزمت سوء الظن فينا، وهزمت الإحباط، وحطمت الصورة النمطية الفاسدة عن الزعماء. أنت لم تهزمنا، أنت هزمت الهزيمة وصرعت الإحباط في جانب رئيسي من هذا الوطن العزيز، وآخر همي ماذا يقول الآخرون. يكفي أنك لست مثلهم.