لم يخرج الجنرال ميشال عون في خطابه أمس الأول من على مسرح «البلاتيا» عن السياق المتّبع من جانب الرابية منذ أسابيع. أخطأ من ظنّ أنّ الرجل سينسف طاولة نبيه بري الحوارية فيكون ثاني مقاطعيها ورافضي الاعتراف بشرعية مقرراتها. ترك الرجل خيطاً رفيعاً تبقي مشاركة «التيار الوطني الحر» قائمة على مائدة التشاور، الى أجل غير مسمّى.
وأخطأ من اعتقد أنّ إصرار «الجنرال» على أن يشهد على مراسم التسلّم والتسليم في «التيار» الذي ولد على يديه ونشأ على مرأى من عينيه، ليكون جبران باسيل وريثه في حياته، قد يحمله الى الاستقالة النهائية ويجلسه في صالونه مراقباً على طريقة نادي السياسيين المتقاعدين.
وقف رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» أمام أبنائه وضيوفه من حلفاء وخصوم ليكرر ثوابته في «الوقت الإقليمي والمحلي الضائع»: لا زلت المرشح الأول لا بل الأوْلى بالرئاسة. فإما أكون رئيساً وإما تغيير قواعد اللعبة من خلال إعادة تشكيل موازين القوى تحت البرلمان واستطراداً في معادلة السلطة.
ساذج مَن يعتقد أن ميشال عون استنفد كل مخزون طاقته وآماله وبات مستعداً لتقديم ترشحه على طبق مجانيّ. يعرف جيداً أنّ زمن «تقريش» المواقف والترشيحات لم يحن بعد طالما أنّ التسوية الإقليمية لم تنضج بعد، وبالتالي فإنّ أي خطوة الى الوراء «ستكون كالقفز في الهواء».
لهذا، تركّزت الأنظار والآذان على ما قاله جبران باسيل في خطاب «العهد» الذي قدّم فيه مقاربته السياسية كما التنظيمية. ولكن تبيّن أنّ الفوارق بين ما بعد عشرين أيلول وما قبله، قد تكون محدودة جداً، ولا تتخطّى الشكل، لأن الجوهر قد يبقى هو نفسه.
مَن يتابع حركية دائرة القرار في الرابية، يجزم بأنّ رئاسة جبران باسيل لـ«التيار البرتقالي» لن تغيّر كثيراً في الأمور، فـ «الجنرال» سيبقى بمثابة عين تراقب من بعيد وتتدخّل حين تدعو الحاجة ويرفع «البطاقة الحمراء» اذا شعر بالحاجة الى ذلك.
وإذا ما اعتبرنا أنّ سلّم أولويات «التيار الوطني الحر» فيه ثلاثة محاور، القضايا السياسية الكبرى، المشاركة في الحكومة، والملف التنظيمي، فإنّ العارفين يؤكدون أنّ «الجنرال» سيظلّ ممسكاً بالمحور الأول ولن يتنازل عنه وأصلاً لن يطالبه أحد بذلك.
أما الملف الثاني، فإنّ بصمات وزير الخارجية فاقعة فيه ولاعتبارات عدة، منذ زمن، ولا حاجة بالتالي لجلوسه على كرسي رئاسة التنظيم كي يطالب بحصته وهو الذي كان يتولى عملياً إدارة مشاركة وزراء «التيار» في الحكومات المتعاقبة منذ أيار 2008 حتى الآن، حتى أنّ «الجنرال» قد لا يتخلى عن دور المحامي والمدافع عن أداء جبران باسيل في هذا المجال، خصوصاً إذا شعر بتقاطع مصالح بين الداخل (التيار) والخارج لإضعاف ما يمثله باسيل في المرحلة المقبلة.
أما التغيير الشكلي، الذي قد يطرأ، فهو في الملف التنظيمي. هنا، صارت مسؤولية الرئيس واضحة ولا التباس فيها، على عكس ما كان يحصل في المرحلة السابقة، أو كان يُتّهم به. لا بل ثمة من يشتمّ وجود اتجاه لتلميع صورة «التيار» في المرحلة المقبلة من خلال اللقاءات الشعبية الحاشدة الهادفة الى شدّ العصب، ولو كان ذلك على حساب المضمون.
هناك مَن يعتقد أنّ المتغيّر الوحيد الذي سيشهده المسرح البرتقالي هو وقوف باسيل على منبر «التيار» كرئيس وليس كصهر، وذلك بهدف تقوية موقعه داخل التنظيم وتدعيم حيثيته. ولهذا فإنّ كل الشغل خلال المرحلة المقبلة سيتركز على هذه النقطة.
الا أنّ ذلك لا يعني إطلاق الأحكام مبكراً على «العهد الجبراني»، ويميل كثر الى منحه فرصته كي يقول كلمته خصوصاً أنّ أبرز إيجابيات هذه المرحلة هي وجود نظام داخلي على علاته، يمكن الاحتكام له، وسيصعب تجاوزه.
بالأمس، وعد الرئيس الجديد بالاحتكام الى ديموقراطية صناديق الاقتراع التي يفترض اللجوء اليها أول العام المقبل لاختيار قيادات الغد، ولكنه في الوقت ذاته حاول إغراء القاعدة بجزرة التوافق أو التزكية كما حصل في الرئاسة، تجنّباً لكأس مرّة قد يضطر لتجرعها، ولكن في حال نجح مؤيدو المعارك في فرض مرشحين لا سيما لمناصب المنسقين الذين سيشكلون المجلس الوطني، فإنّه سيستحيل إيقاف قطار الانتخابات.
هكذا، انتقلت الكرة الى ملعب جبران باسيل. أما ميشال عون، فإنه يريد انتقالاً سلساً برعايته وعلى مرأى من ناظريه، في محاولة منه لضمان نتائجه، خصوصاً أنه سمع من قياديين في «التيار» في السابق كلاماً واضحاً: طالما أنت على قيد الحياة، فلن تكون قادراً على تجيير الرصيد لشخص بل لمؤسسة.. وبالتالي، فلتكن شراكة في القرار، لكن «الجنرال» حسم أمره وقرّر أن يكون جبران صاحب القرار الأول من بعده، مستعيناً بنظام داخلي يكاد يصل إلى حدّ تأليه «الرئيس»!